نشر موقع (جيوبوليتيكال فيوتشرز) تقريراً موثّقاً عن مستقبل الاقتصاد السعودي، بل ومستقبل السعودية السياسي، وما تواجهه من تحديات بنيوية نتيجة السياسات المتبّعة.
في 30 نوفمبر، وافقت الدول الأعضاء في أوبك على تفعيل اتفاق سبتمبر لخفض إنتاج النفط في محاولة لزيادة أسعار النفط الخام. بعد مقاومة طويلة لمحاولات تخفيض إنتاجها، وافقت المملكة السعودية أخيراً على تحمل مسؤولية أكبر بخفض إنتاجها بمقدار 486 الف برميل يومياً. وكان دافع التحوّل في الموقف السعودي هو الخوف في حال لم تتحرك الرياض للحد من إمدادات النفط العالمية، فإنها تخاطر بإنضاب احتياطيها من النقد الأجنبي من أجل سد العجز في الميزانية (قبل أكثر من عام بقليل حذّر صندوق النقد الدولي من انه اذا لم تنتعش أسعار النفط فإن المملكة قد تستنفد كامل احتياطياتها بحلول عام 2020). هذا التحوّل يأتي فيما تمر المملكة بمرحلة انتقال قيادي كبير، كما هو واضح من استبدال كل من وزراء النفط والمالية في وقت سابق من هذا العام.
المشاكل المالية للمملكة
لقد بدّدت الرياض 27% من احتياطيها من النقد الأجنبي، الذي وصل 737 مليار دولار في آواخر 2014. في أكتوبر 2016، انخفض الى مستوى 535.9 مليار دولارـ أي انخفاض بمقدار 10 مليار عن الشهر الذي سبقه، أي سبتمبر الماضي. فقد سجّلت المملكة عجزاً مقداره 98 مليار دولار في 2015، وتأمل هذا العام ألا يتجاوز العجز 87 مليار دولار. وقامت المملكة بجملة من التدابير حتى الآن، بما في ذلك تبني مسار صارم بإصدار سندات لبيع دين الحكومة، وخصخصة شركات القطاع العام التي تتعامل مع الخدمات، ونظام ضرائبي.
لقد قيل الكثير عن النجاح في المملكة السعودية في أول دخولها إلى أسواق رأس المال العالمية. إصدار السندات، الذي جلب 17.5 مليار دولار في منتصف أكتوبر، جلب أربعة أضعاف من المشترين. كان المشترون متحمسين لأن المملكة تقود العالم في إنتاج النفط الخام ولديها ديون منخفضة جدا للشروع. ومع ذلك، فإن هذا الرقم 17.5 مليار دولار يتضاءل عندما يوضع في سياق المشاكل المالية في الرياض. إذ لجأت المملكة لإصدار سندات ما يكشف عن مدى الضغوط الاقتصادية.
أما إلى أي مدى يحتاج السعوديون لإصلاح الهيكل الإقتصادي السياسي، فيمكن الاستدلال على ذلك من خلال استبدال إثنين من كبار المسؤولين لضمان المملكة الرفاه الاقتصادي. وزير المالية إبراهيم بن عبدالعزيز العساف، الذي كان يشغل منصبه لمدة 20 عاماً أعفي من منصبه في الأول من نوفمبر الماضي، بعد أسابيع من الترويج الواسع لاصدار السندات. وفي مايو الماضي، أزاحت المملكة علي النعيمي، الذي كان يشغل منصب وزير النفط منذ عام 1995. إن تعيين وزيرين جديدين لاثنتين من أهم الحقائب الوزارية يدل على أن السعوديين يدركون أنهم يواجهون أزمة اقتصادية تاريخية، والتي لن تحل إلا من خلال تحويل نظام. في حين أن كلاً من الوزيرين الجديدين يجلبان معهما خبرة عمل كبيرة، فإنهما يواجهان نفس القيود المفروضة على أسلافهما. وعلاوة على ذلك، فإن لديهما مهمة شاقة لناحية توجيه الأجهزة البيروقراطية في مياه مجهولة.
وفقا لموديز، كانت نسبة دين الرياض إلى الناتج المحلي الإجمالي هي 2.2% قبل أربع سنوات. في عام 2017، ومن المتوقع أن هذه النسبة ترتفع صاروخياً إلى 22%، ومن المتوقع أن تصل إلى 30% بحلول نهاية العقد الحالي. بحلول عام 2020، سوف يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.9% انخفاضاً من علامة 5%، وهو المتوسط خلال الفترة من 2010-2015.
وقد أجبرت المشاكل المالية المتصاعدة المملكة السعودية لتحويل إنفاقها من خلال الانخراط في حملة التقشف الكبرى، التي تشمل خفض الرواتب وخفض الدعم. على سبيل المثال، تمّ خفض 70% من النفقات الرأسمالية في الأشهر القليلة الماضية.
أن الوضع خطير جداً، ما اضطر السعوديين إلى اتخاذ تدابير نموذجية في معظم البلدان ولكن لم يسمع بها من قبل في المملكة. وفيما كانت تنفي أنها ستفرض ضريبة الدخل، لم ينج السعوديون تماما من الأشكال الحديثة من الضرائب بالنظر إلى أن من المتوقع أن تدخل حيز التنفيذ في يناير عام 2018. وعلاوة على ضريبة القيمة المضافة، فقد تمّ النظر بجدية في فرض ضريبة على الدخل على الجاليات الأجنبية أو العمالة الوافدة. هذه هي التحولات الكبرى للمملكة التي لم تشهد من قبل هذا النوع من الضرائب.
كما تم اتخاذ تدابير إضافية لمعالجة المشاكل الإقتصادية. وشهد سبتمبر الماضي خفض 17 مليار دولار من المزايا التي يتمتع بها 3 ملايين من العاملين في القطاع العام، والحكومة السعودية قد تتأخر أيضا في المدفوعات المستحقة لعدد من شركات القطاع الخاص مثل مجموعة بن لادن السعودية الشهيرة وشركة سعودي أوجيه. ومع ذلك، خصصت الحكومة 27 مليار دولار في نوفمبر الماضي في محاولة لتعويض تلك الديون. وعلاوة على ذلك، ذكرت وكالة الأنباء السعودية يوم 7 نوفمبر أن مشروعات التنمية التي تبلغ قيمتها 266 مليار دولار قد تمّ إلغاؤها.
وقد بلغ الضيق الاقتصادي حدّاً بدأ ينعكس في التأثير على صورة المملكة في العالم الإسلامي. على مدى عقود، عزّزت المملكة موقعها بكونها "خادمة الحرمين الشريفين"، بالنظر إلى أن كلاً من المسجد النبوي والكعبة المشرفة، ومعظم المواقع الإسلامية المقدسة، تتواجد داخل حدودها. ونتيجة لذلك، فقد كان النظام الملكي وحليفها السلفي المحافظ المنظّم الرئيسي لـ (الحج) و(العمرة). على الرغم من أنها تشرف على هذه المواسم لعقود من الزمن، إلا أن السعوديين وحتى الصيف الماضي، لم يفرضوا ضريبة على المسلمين من مختلف أنحاء العالم إزاء تقديم هذه الخدمة. الآن، مع استثناء حجاج بيت الله الحرام لأول مرة، فرضت المملكة رسوم التأشيرة 533 دولاراً على كل من الملايين الذين يدخلون البلاد سنوياً لأداء الشعائر.
وبرغم من أن هذا يعد تحولاً كبيراُ، يعتقد السعوديون أن لديهم القليل ليخسروه والكثير ليكسبوه من خلال فرض رسوم على غير المواطنين، حيث من المرجح أن يبقى عدد من الحجاج الذين يزورون المملكة مستقراً. ينفق المسلمون من جميع أنحاء العالم عدة آلاف من الدولارات لتلبية المتطلبات الدينية للحج، ورسوم إضافية من غير المرجح أن تمنع المؤمنين من القدوم.
القلاقل الكامنة
على مدى عقود، استند النظام السعودي بقوة على محورين أساسيين هما: النفط والإسلام. تمّ تأسيس النظام كدولة إسلامية خلال فترة ما بين الحربين، وعزز هذا الوضع باكتشاف احتياطيات نفطية هائلة ومليارات الدولارات التي حصل عليها السعوديون في وقت لاحق من تصدير النفط الخام.
للحصول على معنى: كيف أصبح النفط حاسماً؟ يحتاج المرء إلى أن يأخذ في الإعتبار أن المملكة واجهت تحدّيات لشرعيتها كدولة إسلامية منذ الأيام الأولى. على سبيل المثال، أتهمت جماعات مختلفة على مدى عقود السعوديين بخيانة الدين للبقاء في السلطة. وتنشأ العديد من التحديات من عناصر داخل الفضاء الأيديولوجي السلفي الذي أنشاه السعوديون بأنفسهم، وأن القاعدة، والدولة الإسلامية (داعش) يمثلان آخر وأخطر هذه القوى. ومع ذلك، فإن عائدات النفط قد سمحت للنظام الملكي السعودي لدرء مثل هذه التحديات والبقاء في السلطة. وقد ساعد المال في الحفاظ على ولاء القبائل والعشائر، والسيطرة على الجماهير وكذلك قطاع كبير من علماء الدين. وقد وفّر ذلك حصناً ضد المواطنين الذين ربما أرادوا أن يتمردوا ضد النظام.
الأهم من ذلك، كانت البراعة المالية للمملكة حاسمة في منع المعارضين السعوديين، سواء العنيفة أو غير العنيفة، من اختراق السكان على نطاق أوسع. في أعقاب الربيع العربي، إن سلسلة من الانتفاضات الديمقراطية التي انتشرت في جميع أنحاء العالم العربي في عام 2011، دفعت المملكة السعودية ليس فقط لزيادة التقديمات الاجتماعية فحسب، ولكن قامت أيضاً باستخدام ماهر للفوضى في دول عربية أخرى لناحية صرف أنظار الجماهير عن المعارضة في الداخل. إلى جانب الامتيازات التي تمتّع بها المواطنون السعوديون، فإن الثروة البترولية للمملكة عملت كرادع رئيس ضد أي شكل من أشكال المعارضة. ومع ذلك، فإن الإنفاق الذي تمّ تصميمه للحفاظ على الاستقرار قد خلق وضعاً يمكن أن يؤدي إلى حالة من الفوضى بسبب انخفاض أسعار النفط وإجبار المملكة على خفض هذه الامتيازات. من غير المرجح أن تظل متوافقة مع الجمهور.
تمّ بناء الشرعية في المملكة كدولة إسلامية على فكرة أن الأسرة المالكة السعودية هو المدافع عن العقيدة. ومع ذلك، فإن الحجج الدينية للحفاظ على الهيكل الحكومي القائم من غير المرجح أن يبقى طويلاً في ظل الضغوط الاقتصادية الحالية. في الواقع، إن العديد من أولئك الذين يقدمون مبررات دينية يمكن أن تصبح هي نفسها عرضة لان تتحوّل أكثر راديكالية وهو ما كانت تتجنبه السعودية حتى الآن. وفي حين لا يعترفون بذلك علناُ، فإن كثيراً من داخل المؤسسة الدينية يتقاسمون ذات الانتقادات التي تحملها الجماعات الجهادية للنظام. ومع ذلك، فإن هؤلاء لا يتفقون مع النهج الجهادي والكفاح المسلح، ويخشون من أن التمرد ضد النظام من شأنه أن يخلق وضعا أسوأ بكثير. ومع ذلك، إذا نظر الى النظام بأنه غير قادر على إدارة شؤون المجتمع، فإن أعضاء المؤسسة الدينية من المرجح أن ينقلبوا ويعتنقوا أفكاراً متطرفة من أجل التغيير.
بشكل عام، اعتاد المواطنون السعوديون على نمط حياة متميزة كانت تتولى الحكومة تمويلها على مدى عقود. ليس فقط تقوم الحكومة بتقليص الانفاق بسبب هبوط حاد في أسعار النفط، ولكن يضطر النظام إلى إعادة النظر تماماً في النهج الاقتصادي. يفهم النظام أن خفض الإنفاق لن يعالج تماماً الوضع الاقتصادي. في الماضي، عملت المملكة على الاعتقاد بأن الطلب على النفط سوف يبقى دائماً مرتفعاً، ولكن هذا النهج لم يعد قابلا للتطبيق نظراً لزيادة عدد المنتجين الآخرين، لا سيما في أمريكا الشمالية مع بداية النفط الصخري. هيكل الاقتصاد السياسي يجب أن يتغير، ويجب أن يكون من المتوقع أن يعمل الناس، كما هو الحال في معظم البلدان الأخرى. ومع ذلك، فإن الجمهور ليس على استعداد لمثل هذا التحول الهائل. بالإضافة إلى ذلك، فإن تحرير الاقتصاد يتطلب سماح النظام للتحرر الاجتماعي - وهو مفهوم صعب على غالبية السعوديين، الذين يتبعون مدرسة سلفية محافظة للغاية.
المملكة السعودية لا تعاني فقط من آلام مالية قصيرة الأجل والتي يتعيّن على الجماهير تحملها مؤقتاً. على العكس من ذلك، فإن الوضع المتطور خلق حالة عدم اليقين على المدى الطويل بشأن عدم قدرة النظام على إدارة شؤون الدولة. هذا هو المكان الذي قد يصبح فيه الانتقال الوشيك للسلطة من أبناء المؤسس لأحفاده مشكلة. ثقة الجمهور في قدرة الجيل القادم لقيادة البلاد للخروج من المستنقع الحالي قد ينخفض. وسائل الإعلام مليئة بقصص عن القلق العام حول الوضع، لذلك هناك مؤشرات كثيرة على أن الثقة العامة في تضاؤل مستمر.
احتمال الانهيار هذا له انعكاسات مباشرة على إبن الملك البالغ من العمر 30 عاماً ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يتحكم بشكل أساسي في الحكومة.
محمد بن سلمان، كوزير دفاع ومهندس مشاريع الإصلاح الاقتصادي الذي يطلق عليه إسم الرؤية 2030 وخطة التحول الوطني، فإنه أكثر قوة من ابن عمه ولي العهد الأمير محمد بن نايف. بالإضافة إلى اتخاذ القرارات الإقتصادية المحلية، تمّ تكليف إبن الملك باتخاذ القرارات الهامة في السياسة الخارجية. على سبيل المثال، كان وراء قرار مواصلة الحرب المكلفة في اليمن التي ضللت السعوديين وهو الماسك الرئيسي بزمام الخزانة. تكلفة الحرب هي أعلى من مجرد 5 مليار دولار بحسب ما أورد السعوديون في تقرير حول الإنفاق على القتال. فالرياض عليها انفاق مبلغ كبير للحفاظ على الحكومة اليمنية الموالية للسعودية كيما تقف على قدميها، وسيكون لها أيضا أن تتحمل تكاليف إعادة الإعمار.
بالإضافة إلى اليمن، يشارك السعوديون في العديد من البلدان الأخرى حيث أن المملكة هي القوة الوحيدة المتبقية في العالم العربي. لمنع المنطقة من المزيد من الخروج عن السيطرة، فإن على المملكة أن تنفق عشرات المليارات من الدولارات على إدارة الصراعات. لديها التعامل في وقت واحد مع تهديدات من جماعات مثل داعش الذي يسير على نفس فكر السلفية الأصلية مثل السعوديين، وتهديدات من جماعات ودول هي معارضة لها عرقياً ودينياً مثل إيران.
وبالنظر إلى عدم وجود ثقافة معارضة، فإن ذلك من شأنه أن يخلق أزمة ثقة داخل النخبة السياسية أكثر من خروج المواطنين الى الشوارع بمثل هذه الظروف القاتمة.
كثيرون من داخل العائلة المالكة يشعرون بخيبة امل بالفعل أن ابن الملك عديم الخبرة وجمع قدراً غير متناسب من القوة.
وهناك سابقة لخلاف داخل العائلة المالكة، كما هو الحال مع أول خليفة للمؤسس (الابن الأول لتولي العرش)، الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود، الذي اضطر للتنازل عن العرش للأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود في عام 1964 بعد أن كان سعود ملكاً لما يزيد قليلا عن عقد من الزمان. الصراع على السلطة بين اثنين من الأخوة خلق أزمة كبيرة في وقت مبكر جداً في سنوات نشأة للدولة. ولكن العائلة المالكة (التي كانت صغيرة في ذلك الوقت)، بالتعاون مع المؤسسة الدينية، تمكنت من ضبط النزاع الداخلي قبل أن يلحق ضرراً بالنظام. ومع ذلك، كان الوقت مختلفاً جداً حين لم تواجه المملكة ضغوطاً متعددة (محلياً ودولياً)، كما هو الحال الآن. وهذا يزيد كثيراً من فرص بلوغ النظام السعودي النقطة التي تبدأ فيها سلطته بالتلاشي.
استنتاج
نظرا للضغط الإقتصادي الحالي، فإنّ أي خلاف داخل العائلة المالكة قد يؤدّي إلى مزيج من إثارة الشارع والتشدد.
في الوقت الحاضر، لا توجد علامات علنية تشير الى أن ن محرك التقشف يؤثر سلباً على الاستقرار السياسي في المملكة. ومع ذلك، نظراً لأنه من المرجح أن تكون فترة طويلة قبل عودة أسعار النفط إلى 90 دولاراً للبرميل الواحد (السعر الذي يمكن به للسعوديين تحقيق التوازن)، فمن المعقول أن نتوقع عدم الاستقرار في المستقبل.
ومن المفارقات، أن الإصلاحات الاقتصادية التي أرغم السعوديون على تبنيها لتجنب الإضطرابات من المرجح أن تؤدّي إلى تفاقم الأمور.
موقع جيوبوليتيكال فيوتشرز- توفيق العباد-