تكاد حال السعودية تصعب على الصديق. فالمملكة التي اعتادت منذ السبعينيات التربع على عرش العالم العربي، تعاني لإدراك مدى تقلص نفوذها، فتواصل عنادها في اليمن، أو تتخفى خلف الحليف التركي في الشمال السوري لعجزها عن المواجهة المباشرة. وهي أيضاً تنتظر انطلاق عهد الرئيس الأميركي الجديد لمعرفة موقعها لديه، خاصة بعدما اتهمت إدارة باراك أوباما بالتخلي عنها. هذا في السياسة، حيث قد يتسع هامش الترف للتحليل، لكن في الاقتصاد حيث يُبنى الحديث استناداً إلى الأرقام، فإنّ الواقع صعب أيضاً.
أول من أمس، أعلنت الرياض موازنتها لسنة 2017 المالية، بعجز زاد على 52 مليار دولار. وهي الموازنة الرابعة على التوالي التي تسجل عجزاً عقب انخفاض أسعار النفط. وفيما قُدِّمت نسبة العجز على أنها إنجاز (87 ملياراً في الموازنة السابقة)، فإنّ التراجع لا يندرج ضمن نتائج «رؤية المملكة 2030» التي فرضها عملياً محمد بن سلمان قبل أشهر، بل إنّ تفسيره يعود إلى أنّ الرياض لا تدفع بعض الديون الداخلية والخارجية، إضافة إلى أنّ أسعار النفط ارتفعت خلال الأسابيع الأخيرة، ما سمح بتبني موازنة تستند إلى سعر مستقر ومرتفع لبرميل النفط.
لا شيء يقود نحو اعتبار أنّ السعودية تقترب من أزمة ضخمة لا يتمناها لها أحد، لكن لا شيء يوحي أيضاً بأنّ الملك ونجله يدركان أنّ السعودية لم تعد تلك الدولة التي كانت تعوم فوق كنوز النفط والمال
237 مليار دولار هو متوقع حجم الإنفاق السعودي في عام 2017، مقابل 184 مليار دولار هي الإيرادات المحتملة إلى خزينة الرياض في العام نفسه، أي بعجز يبلغ 52.8 مليار دولار، هو الفارق بين الإيرادات والنفقات.
ورغم حدة هذا العجز المخمَّن في موازنة السنة المالية المقبلة، المعلن عنها أول من أمس، فإن الحكومة السعودية ضُبطت وهي تحتفي بالرقم على أنه إنجاز ضخم.
تسُوق الرياض لفرحتها مبررَ تقليص العجز في السنة المقبلة عن عجز موازنة العام الماضي (2016) بنسبة 33%. لكن، كيف كان لحكومة أن تتخلص من عجز لامس عتبة التسعين مليار دولار في 2016؟ وعلى أي لبنة بنت الرياض توقعاتها للسنة المالية الآتية؟
استراتيجية الترقيع
تبخُّر عشرات المليارات الضائعة بين انخفاض الإيرادات أمام النفقات في 2016، تفسّره السياسة المالية التي اتُبعت في المملكة طوال الأشهر الماضية، وقوامها عملية تآكل ذاتي نخرت عميقاً في الاحتياطي النقدي السعودي، وبرامج ضريبية انقضّت بها حكومة الرياض على جيوب مواطنيها، مخلّفة صدمة عارمة في بنية مجتمع ألِف الدعم الحكومي وطفرة مالية باتت، على ما يبدو، كلها أموراً من الماضي.
تقدّر أرقام بعض التقارير حجم المستعان به من الاحتياطي النقدي بـ48 مليار دولار (على الأقل)، وذلك فقط ما سُدّد من خلاله نسبة من عجز 2016؛ مبلغ يميط اللثام عما كان يقف خلف أخبار تراجع الاحتياطي في مؤسسة النقد السعودية بصورة دورية. آخر تلك الإحصاءات تشير إلى رسوّ حجم الاحتياطي النقدي للرياض على قرابة 543 ملياراً، وهو الاحتياطي الذي قدّر يوماً بـ800 مليار، قبل أن يهبط إلى 648 في وقت قريب، ثم يتابع انحداره الحاد. مع كل ذلك، توجد ديون عامة تجاوزت في أيلول الماضي 90 مليار دولار، ما بين ديون محلية (أبرزها لشركات التعهدات) واستدانة من الخارج تفوق 27 ملياراً، كذلك توضح التقارير أن بعض هذه الديون استخدم أيضاً لسد عجز 2016.
ما تقدّم، لا يوافي جميعه الفرحة السعودية العارمة بجمع 17 مليار دولار في 2016، في حين أن الإنفاق أقل من المتوقع بنسبة بسيطة. الخلاصة المبسطة لحالة الاستنزاف أن السعودية اليوم بلد يخسر الكثير من المال، ولا يدخل إليه ما يعادل إنفاقه.
لكن... لا ضرائب جديدة!
بينما تدشّن المملكة النفطية عامها الرابع على التوالي من العجز في الميزانية، تبشّر مواطنيها بأنها لن تعتمد ضرائب جديدة في 2017. إعلان شابهُ منسوبٌ من التمويه وغياب الشفافية، وفق خبراء، في وقت يعلَق فيه المواطن السعودي بين كماشتي القرارات التقشفية القاسية في الأشهر الماضية، التي شملت رفع الدعم عن الوقود ورفع أسعار المياه والكهرباء، والقرار الأخطر المرتقب في 2018 حين سيدخل اعتماد الضريبة على القيمة المضافة، بنسبة 5%، حيز التنفيذ؛ فما أرادت السعودية فرضه من ضرائب، فرغت منه العام الماضي مع جرعة القرارات التقشفية.
ورغم غياب الشفافية وسياسة التعتيم، اللتين يعاني منهما المراقبون مع الإدارة السعودية، بمستطاع المؤسسات الدولية تشخيص مكامن الخلل في إعلانات سعودية مماثلة تستجدي في الغالب تطمين الرأي العام، الداخلي، كما الخارجي (الاستثماري). مؤسسات كبرى خبرت التعاطي مع الضبابية في مؤشرات صاحبة الاحتياطي الثالث من حيث الكبر في العالم، بعد الصين فاليابان، كانت قد استبقت الإعلان السعودي، طارحة مخاوف من تخطّي العجز عتبة 8% التي تحدثت عنها موازنة 2017.
ما توقعه «صندوق النقد الدولي» لموازنة السعودية المقبلة هو تسجيل عجز بـ13% بدلاً من 16% في السابق، فيما قدرت وكالة «إس آند بي» أن يبلغ العجز من 2016 إلى 2020 متوسط 9%. أما متوسط نسبة 2016 – 2021، وفق وكالة «فيتش»، فيقدر بـ11.2%، وهو أعلى مما توقعته «موديز» في المتوسط لخمس سنوات مقبلة، ويبلغ قرابة 9.5%.
اللافت أن كل ما سيق يترافق مع طموح سعودي لبلوغ ميزانية متكافئة (لا ربح ولا خسارة) في 2020، وهو ما يشكك فيه مراقبون، ويؤكده وزير الطاقة السعودي، خالد الفالح، بالاستناد إلى الحفاظ على ارتفاع أسعار النفط المتوقعة بعد اتفاق «أوبك» على تخفيض الإنتاج.
تعافي سعر برميل النفط تراهن عليه الرياض في موازنة 2017 بصورة جلية، إذ إن رفع حجم النفقات بهذه الأريحية عائد، وفق خبراء، إلى اعتماد سعر مستقر يفترض متوسطاً يتراوح بين 47 و55 دولاراً للبرميل. رغم ذلك، يبقى هذا الرهان ضبابياً، ويعاكس مختلف التوقعات حول تعافي أسواق النفط. أما التوقعات، فتتنبّأ أعلاها تفاؤلاً بانتعاش الأسواق ابتداءَ من منتصف العام المقبل، وتذهب أكثرها تشاؤماً إلى بقاء التذبذب مسيطراً على أسعار البترول حتى نهاية السنة، قبل أن نلمس تحسّناً طفيفاً لا تنبغي المبالغة فيه.
ماذا عن «رؤية بن سلمان»؟
بسطُ السعودية يدَها في الإنفاق للسنة المقبلة لن يعني بالضرورة السير في مخططها المرسوم لبنية اقتصادية جديدة، متحررة من النفط، كما يخطط ولي ولي العهد، محمد بن سلمان، لما يعرف بـ«رؤية 2030». العلامات الفارقة في حال الاقتصاد السعودي المستجد ترشح عنها ارتدادات عكسية للسياسات التقشفية. يسجل الاقتصاديون «نفوراً» كبيراً لدى المستثمرين، في ظل تبدل أحوال القدرة الشرائية للمواطن السعودي الذي استفاق مؤخراً على واقع لم يعهده يوماً، وخسر معه أصحاب الوظائف الكثير من العلاوات والمحفزات، فضلاً عن تحمّلهم رفع أسعار الوقود والكهرباء (أسعار مرشحة للارتفاع أكثر في 2017)، ما انعكس غلاءً فاحشاً في أسعار السلع والخدمات.
يُسَجل، مثلاً، أن الإنفاق المرتفع للعام المقبل عن 2016، لا يقتصر على تحسين البنية التحتية، بل يطال مجال الإنفاق العسكري (الذي هو أساساً الأضخم عالمياً) بـ6.7%، وهي نسبة لا يمكن توقع ثباتها، مع خوض السعودية حربها في اليمن، كما حدث العام الماضي، حينما تجاوز الإنفاق العسكري ما كان مرسوماً لسنة 2015 المالية بالمليارات.
يقرأ مراقبون كل ما تقدم على أنه نتاج حالة من التخبط والعناد تسيطر على مؤسسة القرار السعودي، التي تأخرت حتى الأسابيع الماضية في إخراج اتفاق الدول الأعضاء في منظمة «أوبك» على تخفيض الإنتاج النفطي من جهة، وتُواصِل إنفاقها الحربي الضخم على تدخلاتها العسكرية الخارجية من جهة ثانية، مع أمل في بناء اقتصاد لا يعتمد على النفط.
المشكلة تكمن في أن الهرولة السعودية نحو رفع أسعار البترول تكشف حاجتها إلى هذا المورد، وبينما تطمح إلى التخلي عنه مقابل بناء مقومات اقتصادية بديلة، لا تنفك تهدر ما تيسر في خزائنها على الإنفاق الحربي، بدلاً من صرف هذه المليارات على كسر الارتهان للنفط. كذلك تكشف المعلومات عن أن حجم الإنفاق العسكري في 2017 سيرتفع إلى 50.8 مليار دولار، أي أقل من ربع الإنفاق العام بقليل.
يلخّص مواطنون سعوديون كل ما تقدم بعبارة تقول إن «السعودية التي يعرفها الجميع لم تعد قائمة». ويعلق أحدهم بسخرية على إضافة صورة الملك سلمان على إحدى فئات عملة الريال السعودي، قبل أيام، بالقول، إن ذلك لن يكون فأل خير على الإطلاق.
خليل كوثراني- الأخبار اللبنانية-