(فؤاد السحيباني/ راصد الخليج)
يُحاول كلّ نِظام حَكم، في أي بُقعة بَشريّة، صغُرَت أو كبُرَت الجَماعة التي تَقع تحتَ سُلطتِه وتَخضع لقوانينِه، أن يخلق ويُحافِظ على ما يُعرف بـ "العقد الإجتماعي"، أن يضمَن للأضعف/الأفقر/الأقلّ قُدرة، ما يكفي سدّ حاجيّاته الأساسيّة والضّروريّة.
لا يختلف النّظام السّياسي الحَديث كثيراً عن الأسُس الثّابتة التي اتّبعها البَشر، رُبّما تتغيّر المُسمّيات، لكن في الغَرب الرّأسمالي الحرّ تكون إعانَات البَطالة والوجَبات الغِذائيّة والضّمان للأُسَر الفَقيرة مَوجودة ومتوفّرة، وفي الشّرق حيثُ لا تزال الإشتراكيّة تصبَغ النّظم والحكومات والسّياسات، سنجُد سياسَة التّسعير الجَبري، ووضع حُدود قُصوى لأسعار سلّة الغِذاء، وهكذا، تختلِف المُسمّيات لكن الهدَف يَبقى توفير فُرَص حياة أدمية لمن هم دون خطّ الفَقر أو العاجزين عن الكَسب.
ولهذا السّبب توضَع سِياسات الحِماية الإجتماعية، الضّرائب التّصاعُدية، وصولاً إلى مَنح المُميّزات للمصَانع في سبيلِ امتصَاص البَطالة من السّوق وقت الأزمَات.. حُزَم مُتَكاملة من السّياسات الإقتصاديّة، ترفَع شِعار مُجتَمع الرّفاهية إن أمكَن، لكنّها تُقلّص مُشكِلات الطّبَقات المسحُوقة بالتّأكيد.
من هذه النّقطة يُمكن فهم إقرار مجلس الوزراء السّعودي، في يَناير 2018، منح "إعانة غَلاء"، والتي تَبِعت غضَب شَعبي غير مسبوق، تجلّى في حَملة عفويّة عبرَ فَضاء وسائِل التّواصُل الإجتماعي، حمَلت لافتَة "الرّاتب ما يكفي الحاجَة"، ثمّ قرّر المَلك سلمان استِمرارها مَطلع العام الحالي للموظّفين المدنيّين والعسكرييّن والمُتقاعدين.
قبل 5 أشهر من اليَوم، أقرّ مَجلس الوُزراء في المَملكة، فجأةً، إيقاف العمل بعَلاوة الغَلاء، ورَفع ضَريبة القيمَة المُضافة، وكانت الحجّة التي رفَعها الإعلام حينها أنّ الإعانة تُكلّف الخَزانة العامّة نحو 15 مليار دولار سنوياً، في ظلّ أزمة فيروس كورونا المستمرّة، والتّراجع في أسعار النّفط، والتوقّف الإجباري لعدد من الأنشطة الإقتصاديّة بالمملكَة.
بعد 150 يومًا تقريباً من وقف صرف إعانة الغَلاء، ورفع ضرائب القيمة المُضافة، وتراجُع الإنفاق الحُكومي في العديد من المَجالات الحكوميّة والخدميْة، واستمرار حرب أسعار البِترول في وقتٍ يُعاني الإقتصاد العالمي من تبِعات عام مالي كارِثي، يُمكن الآن رؤيَة نتائج بؤس التّخطيط الإقتصادي الذي يحكُم المملكة، وقراراتِه التي تُناقض أبسط مبادئ الإقتصاد والإدارة.
بَداهة، فإنّ ضخّ المزيد من الإنفاق الحكومي في شرايين الإقتصاد المعطّل، كان واجباً وفرضاً، لا بدّ منهُ وقت اشتِعال الأزمَة، وهو قرار مُتاح ومطلوب اليوم، قبل أيّ شيءٍ آخر.
المزيد من الإنفاق يعني المزيد من الثّقة في الإقتصاد السّعودي، مزيد من فُرص الإستثمار الأجنبي، في وقتٍ يُعاني فيه العالم والدّول المُجاورة لتبِعات تفشّي فيروس كورونا، والحِفاظ على الإستثمارات المَوجودة بالفِعل.
أي دارس مبتَدئ لعِلْم الإقتصاد، يعلم يقيناً أنّ صرف علاوة الغلاء، وإيقاف تحصيل ضربية القيمة المُضافة –والتي يتحمّلها المستهلك بالكامل- سيعني تحفيز الإنفاق الشّخصي، وتعزيز القُدرة الشّرائية، وهو أحد أهمّ عناصِر جذب المشروعات الأجنبيّة والمحليّة على السّواء، ثمّ الأهم: تخفيف الأعباء المعيشيّة عن المواطن السّعودي، في ظرف ترتَفع فيهِ البَطالة والفَقر لنِسب مروّعة.
القُدرات الشرائيّة التي تتآكل مع كلّ قرار اقتصادي غاشِم، يُخاصم التّخطيط وأبسط مبادِئ العلوم والإدارة، بدأت تتجلّى في الأسواق والمولات، المُستهلك السّعودي الذي ضجّت الأقلام والشّاشات من مُطالبته بترشيد الإستهلاك يكاد يتوقّف تماماً عن الشّراء، وأصبحت مُفردات مثل شِراء الأرخَص لا الأغلى أمراً واقعاً في الحياة اليوميّة لعموم النّاس.
الدّولة التي فرضت على شعبِها التقشّف، والحجّة هنا توفير 15 مليار دولار، من 20 مليون مُواطن، هي الدّولة ذاتها التي اعتمدت موقف المستسلِم أمام دونالد ترمب، حين منَحته بقرار ملكي 480 مليار دولار من الخزانة العامّة، التي لم تكُن عاجزة أمام الأميركي، ولا تُعاني من المَصروفات والمُنح الإجتماعية!
ما يصلُح محلّاً لإشادات صندوق النّقد والبنك الدّوليين، عن سدّ العجز، وتحقيق الشفافيّة والرّشادة الماليّة، والتّقارير المُصاغة من مكاتب مكيّفة في نيويورك، لا تصلُح بالتّأكيد في المَملكة، ولم يثبُت أنّها تصلُح لأي بُقعة على وجهِ الأرض، وقبل أن ننخرِط تماماً في الإستسلام المُذلّ المُهين أمَام تعليمات أصحَاب الحقائب والأحذية اللامِعة، القادمون من حكومة العَالم الماليّة، يجب أن نتوقّف لسؤال: هل يُمكن أن يُعتبر الوطن مكاناً دائماً لمُعاناة الأغلبيّة، في سبيل الدّعم الغربي للبعض، وإن استمرّ الوطن عنواناً للفَقر وتأكُل فرَص الحَياة عاماً أو أكثر، فهل يستمرّ للأبَد.