صباح نعوش- البيت الخليجي-
تسعى السعودية إلى تحقيق التوازن المالي بحلول عام 2023، وهي بلا شك خطوة إيجابية. ولكنّ السياسة المتبعة لتنفيذها قد تؤدي إلى نتائج خطيرة ترتبط بمالية الدولة ومستوى معيشة المواطنين.
تطبّق الدولة منذ عام 2016 خطة إصلاحية تتناول مختلف الأنشطة والقطاعات. إنها رؤية السعودية 2030 التي وضعت عدة برامج أهمها برنامج تحقيق التوازن المالي، والذّي يتضمن سبعة أهداف: تحقيق التوازن المالي بحلول عام 2023، ترشيد وتحسين الإنفاق العام، إلغاء بعض الإعانات، إعادة النظر في أسعار استهلاك الطاقة، الخصخصة، زيادة أصول صندوق الاستثمارات العامة لتصل إلى سبعة ترليونات ريال، والاهتمام بالإيرادات غير النفطية لتبلغ في العام المستهدف ترليون ريال.
الهدف الأساسي هو التوازن المالي، أمّا الأهداف الأخرى فهي بالدرجة الأولى أدوات لتحقيقه. ولكن، رغم الأهمية القصوى لهذا الهدف إلّا أن تطبيقه يواجه صعوبات عديدة، وهي لا تعود فقط إلى ظروف طارئة كوباء كورونا بل إلى البنية الإقتصادية والسّياسة المالية المعتمدة. سيتطلب الأمر مرة أخرى تأجيل موعد التوازن إلى تاريخ لاحق.(في الوثيقة الأولى للرؤية كانت السنة المستهدفة تعود إلى عام 2019).
ولكن على افتراض استطاعت السعودية التغلب على جميع الصعوبات وتحقيق هدف التوازن في الموعد المحدد في الرؤية، ما هي الآثار الجانبية التي سيخلقها هذا السعي؟ مشاكل خطيرة ظهرت معالمها بوضوح في الوقت الحاضر، بالإضافة إلى تصاعد الضغط الضريبي وما ينجم عنه من ارتفاع أسعار إستهلاك السلع والخدمات. يقود التوازن المالي اذا إلى تناقص الإحتياطي النقدي وإلى تفاقم المديونية العامة الداخلية والخارجية.
تراجع الإحتياطي العام
إنتقل حجم الإحتياطي العام من 829.8 مليار ريال في يناير 2015 إلى 362.9 مليار ريال في يناير 2021. أي هبط بنسبة عالية معدّلها السنوي 9.3%. كان الاحتياطي في بداية الفترة يغطي الواردات لمدة 15.2 شهرا، ثم أصبحت مدة التغطية في نهايتها 8.4 أشهر.
من هنا علينا معرفة أنّ المصادر الرئيسية للنقد الأجنبي السعودي هي: الصادرات وإيرادات الحج والعمرة، وأرباح الاستثمارات في الخارج، وقسط من الخصخصة.
يتأتّى تناقص هذا النقد من تفاعل عاملين: العامل الأول هو تراجع فائض الحساب الجاري الذي انتقل خلال الفترة من 116.8 مليار ريال إلى 84.2 مليار ريال، والعامل الثاني العجز المزمن لميزانية الدولة.
يترتب على هذا التناقص عدة نتائج سلبية:
السعودية كغيرها من بلدان مجلس التعاون تعتمد على نظام التثبيت في سياستها النقدية، أي أنّ القيمة التعادلية للريال لا تتغير مقابل الدولار إلا بحدود ضيقة، والإحتياطي العام هو الوسيلة الأساسية بيد البنك المركزي للدفاع عن السعر الثابت، بالتالي لا يمكن الإستمرار بهذا النظام إلا إذا كان الإحتياطي النّقدي كافيا للتصدي لأية حالة قد تقود إلى هبوط سعر صرف الريال، أي أن الهبوط المستمر للإحتياطي يمثل خطراً على هذا النظام.
كما يقود الهبوط إلى تراجع الثقة بمالية الدولة وسياستها النقدية وقدرتها على الوفاء بإلتزاماتها. الأمر الذي يؤثّر على الإستثمارات الأجنبية، وعلى شروط الإقتراض من الخارج، وعلى التّصنيف الإئتماني للدولة من قبل الوكالات المتخصصة.
من زاوية أخرى يقود انخفاض الإحتياطي العام إلى تراجع دوره في تغطية عجز الميزانية. إذ لا تستطيع الدولة الإستمرار بالسحب منه عندما يتراجع حجمه باستمرار وبقوة. ولما كان من اللازم في جميع الحالات تغطية هذا العجز، يصبح من الضروري تزايد اللجوء إلى القروض، بمعنى آخر يفضي هبوط الإحتياطي بالضرورة إلى تفاقم المديونية العامة، لذلك ترتفع الديون بمعدل يفوق معدل إنخفاض الإحتياطي. ففي عام 2021 هبط الإحتياطي بمبلغ 59 مليار ريال مقارنة بالعام السابق، في حين ارتفعت المديونية بمبلغ 94 مليار ريال، وهو ما سيتكرر في العام المقبل.
تفاقم المديونية
إرتفع حجم الديون العامة من 142.2 مليار ريال في عام 2015 إلى 847.8 مليار ريال في الربع الثالث من عام 2020، أي بزيادة قدرها 496.2%، وهي نسبة عالية حدثت خلال فترة قصيرة تقل عن خمس سنوات. وبذلك كان الدين العام في بداية الفترة يساوي 5.8% من النّاتج المحلي الإجمالي ليصبح 28.8% منه في نهايتها. بمعنى آخر فمعدل ديون الفرد قياساً بدخله إرتفع خلال هذه الفترة إرتفاعاً هائلاً يعادل خمسة أضعاف.
لاشك أنّ ثقل المديونية لا يزال ضعيفاً حسب المقاييس الدولية المتعارف عليها، لكنّ الخطورة تتأتى من سرعة تزايد حجم الديون من جهة وعلاقتها بالناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي بالدّخل الفردي من جهة أخرى.
هنالك خصوصية أخرى للمديونية السعودية لا تقل خطورة عن تزايدها على النحو المذكور أعلاه، وهي تصاعد الديون الخارجية. ففي بداية الفترة كانت الديون العامة الكلية محلية فقط، ولم يكن يوجد ديون خارجية إطلاقا. واعتباراً من سنة تطبيق الرؤية السعودية 2030 في عام 2016 أصبحت الدولة تلجأ إلى السوق العالمية للتمويل، وبات الدين الخارجي في ذلك العام يمثل 103.1 مليار ريال، أي 32.5% من مجموع الديون العامة. ثم ارتفع تدريجياً وبدون توقّف خلال الفترة ليصل في نهايتها إلى 350.2 مليار ريال، أي 41.3% من المجموع. وهكذا انتقل الدين الخارجي قياساً بالناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي بالدخل الفردي من 0% في عام 2015 إلى 11.7% في الربع الثالث من عام 2020.
تراكمت الديون اذا نتيجة تفاعل عاملين هما تزايد الإقتراض وانخفاض القدرة على السداد. ولقد وضعنا المعادلة التالية لتوضيح هذه العلاقة:
دين العام السابق + قروض العام الحالي – خدمة دين العام الحالي = دين العام الحالي.
في الربع الثالث من عام 2020، بلغ حجم الإقتراض 207.2 مليار ريال، وهو من أعلى المعدلات التي عرفتها البلاد بسبب كورونا وهبوط أسعار النفط، كما تمّ سداد 37.3 مليار ريال. أما مديونية البلد في نهاية عام 2019، فقد كانت 677.9 مليار ريال، وبتطبيق المعادلة تصبح الديون 847.8 مليار ريال في نهاية الربع الثالث من عام 2020.
يفترض تطبيق برنامج التوازن المالي أن تتحسن القدرة المالية على السداد من جهة، وأن تهبط الحاجة للإقتراض من جهة أخرى. تحت تأثير هذين العاملين ينخفض بالضرورة حجم الدين العام ويهبط ثقله مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي. عندئذ ينخفض معدل المديونية الفردية. ولكن حدث العكس تماماً على الصعيد العملي، فالدولة تقترض سنوياً مبلغاً من المال يفوق دائماً المبلغ المسدد عن ديون السنوات السابقة، وبالتالي ترتفع الديون.
يتأتى هذا الإرتفاع من العجز المالي الناجم عن عدة عوامل منها تضخم القطاع الحكومي. فعلى الرغم من سياسة تشجيع التوظيف في القطاع الخاص، الا أن نصف اعتمادات الدولة عبارة عن مرتبات للموظفين. كما ارتفع الإنفاق العسكري نتيجة الحرب في اليمن والخطر الإيراني.
يترتب على ارتفاع الديون نتائج سلبية عديدة. فهو يؤدي إلى تراجع مقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية المختلفة تجاه المستثمرين والمقرضين. فالديون تحول الأموال العامة إلى الدائنين المحليين والأجانب بدلاً من الاستفادة منها من قبل جميع المواطنين، كما تمثل سبباً أساسياً من أسباب انخفاض الإعتمادات المخصّصة للدّعم والتّوظيف والاستثمار، بمعنى أنها تسهم مساهمة فاعلة في انخفاض مستوى معيشة المواطنين.
أمام هذا الوضع يفترض في برنامج التوازن المالي وضع ضوابط محددة لتقليص الديون، لكن خطة الإقتراض لعام 2021 تبنت مبادئ مختلفة تماماً تقوم على مؤشرين:
المؤشر الأول: أصبح مجرد الاقتراض من الخارج بأسعار منخفضة خطوة إيجابية يشيد بها المسؤولون، وقد تأسست “إدارة الدين العام” لتحقيق هذا الغرض.
والمؤشر الثاني: تنويع القروض. بحيث باتت السياسة المالية تسعى إلى اقتراض محلي بنسبة تتراوح بين 55% و75%، واقتراض خارجي بنسبة تتراوح بين 25% و 45%.
في حين تستوجب السياسة الرشيدة تقليص الإقتراض الداخلي والخارجي على حد سواء، وكذلك وضع ضوابط محددة لعلاقة الديون بالناتج المحلي الإجمالي للحيلولة دون تفاقم الديون. كما يتعين استخدام الأموال المقترضة للتنمية الإقتصادية وليس لتمويل النفقات التشغيلية. إذا، أصبح من الضروري تعديل الرؤية السعودية 2030 وفق هذه الاعتبارات الأساسية.
يعد برنامج التوازن المالي الأداة الرئيسة للرؤية السعودية 2030، وهو يرمي إلى معالجة العجز المزمن للميزانية العامة بحلول عام 2023، واتخذ بالفعل عدة إجراءات لتنفيذ هذا الهدف.
يكتسب البرنامج أهمية كبيرة من الزاوية المالية لأنه يهتم بالإيرادات غير النفطية كالضرائب وأرباح صندوق الاستثمارات العامة. ويهتم أيضاً بتقليص بعض أوجه الإنفاق العام كالدعم.
لكن تحليل المعطيات الحالية يشير إلى صعوبة تحقيق الهدف في موعده المحدد، فالنفقات العسكرية مثلا، لم تنخفض بسبب تأزم الوضع في المنطقة.
أضف إلى ذلك أن التحديث الأخير للبرنامج يعود إلى عام 2019، أي قبل وباء كورونا الذي أثّر بشدة على مالية السعودية، وأدى إلى زيادة النفقات ذات الطابع الصحي والاجتماعي وإلى ترجع أسعار النفط. وهكذا أصبحت الأرقام الواردة في البرنامج غير دقيقة مقارنة بالأرقام المنشورة في ميزانية الدولة لعام 2021. فحسب البرنامج يبلغ العجز المالي 128 مليار ريال في عام 2021 و67 مليار ريال في عام 2022. في حين ترى الميزانية الحالية عجزاً سينتقل من 141 مليار ريال للعام الجاري إلى 91 مليار ريال في العام القادم. كما يهدف تحديث البرنامج إلى تحقيق فائض قدره مليار ريال في عام 2023، في حين تشير الأرقام الحالية إلى عجز قدره 13 مليار ريال.
إذا كان تحقيق الهدف مهماً بغض النظر عن موعده، فأن الأهم هي تداعيات هذا الهدف. يقود تنفيذ التوازن المالي إلى ارتفاع المديونية العامة وانخفاض الاحتياطي العام، وهكذا يعالج البرنامج مشكلة ليقع في مشاكل لا تقل خطورة.