ملفات » الفساد في السعودية

ماذا سيصنع بن سلمان بالعربية السعودية؟

في 2017/12/21

بشير موسى نافع- القدس العربي-

لم يشغل حاكم سعودي الناس منذ عقود كما شغلهم ولي العهد الحالي، محمد بن سلمان، الذي بات صاحب القرار الأول في المملكة. ولا يبدو هذا الانشغال مقصوراً على المجال العربي، أو الجوار الإقليمي للعربية السعودية، بل والعالم بأسره.

صحافيون غربيون كبار يفردون مساحات واسعة في وسائلهم الإعلامية لمقابلاتهم معه، واسمه يتردد منذ أسابيع بصفته شخصية العام السياسية، سواء لحجم المتغيرات التي أحدثها في بلاده، أو للإخفاقات في مغامراته الإقليمية، ولا يغيب اسمه من نشرات الأخبار حتى يعود من جديد.

فأي عربية سعودية يمكن أن يصنع ولي العهد السعودي، إن نجح في إمضاء إرادته وتوفر له من الزمن ما يكفي لتنفيذ مشروعه في الحكم؟

منذ تعيينه ولياً لولي العهد، أو الشخصية القيادية الثالثة في نظام حكم المملكة، في مطلع 2015، زحف الأمير الشاب بخطوات سريعة ليعزز سلطته وتحكمه في شؤون السعودية ومقدراتها. إلى جانب إعلانه ولياً لولي العهد، تسلم بن سلمان مقاليد وزارة الدفاع السعودية ورئاسة مجلس التنمية والشؤون الاقتصادية.

لكن ذلك لم يكن كافياً؛ فخلال العامين التاليين، عمل على تسلم ملفات أمنية، وأخرى في السياسة الخارجية، التي كان يفترض أن تقع ضمن مسؤوليات ولي العهد، محمد بن نايف، ومجلس الشؤون الأمنية والسياسية الذي ترأسه.

في صيف هذا العام، أطاح بن سلمان بابن عمه بن نايف، ليصبح ولياً للعهد ويحكم قبضته على وزارة الداخلية، بكافة أذرعها وقوات الأمن التابعة لها. وفي بداية تشرين الثاني/نوفمبر، تخلص بن سلمان من ابن عمه الآخر، الذي لم يكن طموحه في الملك خافياً، متعب بن عبد الله، وسيطر على الحرس الوطني، الذي يعتبر جيشاً موازياً لقوات وزارة الدفاع. بذلك، لم يعد ثمة منافس لابن سلمان يملك أيا من أدوات الدولة المسلحة أو مؤسساتها الفاعلة.

لم يكن خافياً أن حرب اليمن، التي أطلقت بعد شهور قليلة من تولي الملك سلمان مقاليد الحكم، هي مشروع الأمير الشاب الخاص. بدأت الحرب بمبررات يصعب تجاهلها، بعد أن أطاح الحوثيون الحكم الشرعي في اليمن، سيطروا على البلاد بقوة السلاح، وجعلوا من جوار السعودية اللصيق منطقة نفوذ إيرانية.

لكن بن سلمان أدار الحرب بقدر كبير من التسرع وقصر النظر، بدون أن يكون لديه الاستعداد، وربما القدرة، لتحمل الأعباء المترتبة على خوض معركة بهذا الحجم.

وليس ثمة شك أن ابن سلمان تصور أن الحرب، وما تعنيه في المواجهة المستعرة مع إيران، ستوفر له شروط ومسوغات القيادة والسيطرة، وإنفاذ رؤيته الداخلية بدون معارضة تذكر.

ورغم أن التورط في اليمن، بكل تكاليفه السياسية والمالية الباهظة، كان مازال مستمراً، أشعل بن سلمان أزمة جديدة مع قطر قبل ستة شهور. وفي ظل غياب المبررات هذه المرة، لم يكن ثمة خلاف في أن سياسة القطيعة مع قطر وحصارها أريد بها الإخضاع للإرادة السعودية، التي لم يعد ثمة فاصل بينها وبين إرادة ولي العهد.

خلال 2017، أصبحت خطوات بن سلمان الجامحة نحو السيطرة والتحكم أكثر وضوحاً واطراداً. أمر ولي العهد باعتقال العشرات من العلماء والشخصيات إسلامية التوجه، بصورة تعسفية، وبدون أن يثبت على أي منهم أية مخالفات قانونية أو سياسية، وبمعزل عن القضاء.

تلا حملة الاعتقالات الواسعة تلك، حملة أخرى، طالت عشرات من أمراء الأسرة السعودية الحاكمة، وعشرات آخرين من كبار رجال الأعمال والاقتصاد والتجارة، باسم محاربة الفساد.

في الخلفية، كان ولي العهد، مستعيناً بمجموعة صغيرة من الموالين، يتخذ جملة من الإجراءات التي تستهدف صناعة انقلاب جذري في المناخ الثقافي ونمط الاجتماع السعودي المحافظ. إضافة إلى ذلك، وبصورة خفية، وبدون أي نقاش عام، انخرط ولي العهد السعودي في المشروع الأمريكي لتصفية المسألة الفلسطينية، متجاهلاً كل الثوابت التي اجتمع عليها الشعب السعودي، بكافة فئاته، منذ أصبحت فلسطين قضية عربية وإسلامية.

توحي جملة الخطوات التي اتخذها بن سلمان في العامين الماضيين أن الأمير الشاب لم يعد يكترث بمراكز القوة التقليدية في المملكة: الأسرة الحاكمة، المؤسسة الدينية، القبائل والعشائر الرئيسة، ومجتمع التجار والمال والأعمال. وليس عدم اكتراث وحسب، بل وسعي منهجي لتقويض هذه المؤسسات وتهميشها.

بخلاف الدولة الأولى، التي اقيمت على تحالف عقدي-قبلي بين السيف والدعوة التطهرية، والدولة الثانية، التي مزقتها صراعات الأهل وحروبهم، استند الحكم في الدولة السعودية الثالثة إلى عملية تفاوض مستمرة مع دوائر القوة التقليدية.

ليس عبد العزيز فقط، ولكن كافة من تلاه من أبنائه، بما في ذلك الأكثرهم دهاء وأوضحهم كاريزمية، مثل فيصل وفهد، أدرك أن فعالية الحاكم واستقرار المملكة وجهان لهدف واحد، وأن هذا الهدف لا يتحقق بدون أخذ مراكز القوة التقليدية في الاعتبار.

ورغم سعي الملوك المتتابعين لبناء مؤسسات دولة حديثة، سواء من حيث الوظيفة، آلية العمل، أو القدرة على السيطرة والتحكم، إلا أنهم حافظوا على تجنب الإيحاء بتجاهل مركز ما للقوة في المجتمع، أو الصدام معه.

فيصل، الملك الذي عمل أكثر من سواه على تعزيز مركزية الدولة، عمل قبل إطاحة سعود على ضمان تأييد وولاء كافة مراكز القوة التقليدية في البلاد.

من السذاجة، بالطبع، إنكار حقيقة أن عملية التحديث الهائلة، خلال العقود الأربعة الماضية، أوقعت تغييراً ملموساً في علاقات القوة ونمط الاجتماع في المملكة، وأن الدولة السعودية باتت أكثر قوة وتحكماً مما كانت عليه في الحقبة من الثلاثينيات إلى السبعينيات من القرن العشرين.

لكن هذا التغيير وقع بصورة بطيئة، تدريجية، وبدون قطيعة انفجارية وصدام واسع النطاق. ما يحدث الآن أن ولي العهد يقود مشروعاً مفاجئاً، سريعاً، وصدامياً، لبناء علاقة جديدة بين الدولة وشعبها، علاقة لا تأخذ في الاعتبار موقع القبيلة، وسلطة العلماء، ودور أبناء الأسرة السعودية، أو مساهمة رجال المال والأعمال والتجارة، ولا الدور الذي قامت به مراكز القوة هذه في تمثيل المجتمع وعقلنة عملية الحكم.

ليس ضرورياً أن يكون ولي العهد على دراية كاملة بالخلفية النظرية السياسية للانقلاب الذي يتعهده. محمد علي، الذي وضع أسس الدولة المصرية الحديثة، لم يقرأ هيغل أو جيريمي بانثام، ولا كان واعياً بالأثر العميق الذي ستتركه سياساته على بنية الاجتماع السياسي المصري.

حتى في غيبة انتخابات حرة وبرلمان وإطار دستوري، لا يصح وصف نظام الحكم التقليدي بالاستبداد؛ لأن السلطة في النظام التقليدي ليست مطلقة، بل تنبع من عملية تفاوض ومساومة وتوازنات بالغة التعقيد بين صاحب القرار ومراكز القوة المختلفة الأخرى في المجتمع.

الآن، إن نجح ابن سلمان في إنفاذ مشروعه، ستعرف المملكة الاستبداد على حقيقته؛ حيث تتعامل الدولة مع السعوديين ليس كجماعات ومراكز قوة اجتماعية، بل مجرد أفراد.

لكن الفارق بين السعودية الجديدة، والدول المركزية الحديثة الأخرى، سيكون في حرمان أغلبية هؤلاء الأفراد، المواطنين، السعوديين، من التعبير عن إرادتهم في مؤسسات حكم تمثيلية منتخبة.

بكلمة أخرى، سيصبح الحاكم في المملكة الجديدة تجسيداً للدولة، ويفقد المواطنون أي صوت محتمل لهم، تقليدياً كان أو حديثاً.