درجت الدولة السعودية في الأزمات الاقتصادية التي تواجهها نتيجة انهيار أسعار النفط في 1986، و1998، و2009، وأخيراً 2015 وما تلاها، الى اعتماد تدابير موحّدة: خفض الانفاق الحكومي، وقف أو التقليل قدر الإمكان من الخدمات الرعوية، والاقتراض من البنوك المحلية أو الأجنبية أو بيع السندات.
في كل الإحوال، فإن سياسة التقشف القاسية تترك مفعولها العاجل والمباشر على الأوضاع المعيشية للمواطنين، حيث تبدأ الحكومة برفع الدعم عن الوقود والكهرباء والماء والمنتجات الزراعية، وتزيد من الرسوم والضرائب على الخدمات العامة، والتي تأخذ شكلاً تصاعدياً مع كل أزمة، حيث شملت هذه المرة فرض ضرائب على الطرق السريعة، وعلى النظافة، ورفع أسعار المخالفات المرورية.
أول وأخطر تظهيرات الأزمة الاقتصادية تمثّل في الهزة العنيفة التي أصابت قطاع المقاولات، إذ داهمت كبريات شركات المقاولات مثل بن لادن وسعودي اوجيه أزمة سيولة جعلتهما عاجزتين عن سداد مستحقات العاملين والبنوك، ما تسبب في مظاهر احتجاجات غاضبة.
وبرغم من قرار وزارة المالية صرف مستحقات شركات المقاولات لدى الحكومة على دفعات، فإنه لم يضع نهاية سعيدة للأزمة المتفاقمة بين شركات المقاولات وموظفيها. فما إن بدأت الوزارة بصرف الدفعة الأولى حتى استحوذت مصارف عدّة على مستحقاتها فور إيداعها في حسابات الشركات، ما حرّمها من إمكانية الاستفادة من الأموال في تيسير مهماتها واستكمال مشاريع البناء والتشييد التي يعمل قطاع المقاولات على تنفيذها. وبحسب رئيس اتحاد المقاولين العرب فهد الحمادي إن بعض البنوك سحب 90 في المئة من تلك المستحقات وتركت لشركات المقاولات 10 في المئة فقط. في حين أن البعض الآخر منها سحب المبالغ كافة التي أودعتها وزارة المالية في حسابات شركات المقاولات».
أكثر من ذلك، فقد انهارت آمال شركة سعودي أوجيه في منع انهيار التام، بعد رفض مجموعة سامبا المالية اقتراحاً من الشركة بتجميد سداد ديونها البالغة نحو 3.47 مليار دولار، بحسب وكالة بلومبيرغ الأميركية في 7 ديسمبر الجاري. وكانت سعودي أوجيه تأمل في تجميد السداد لمنع الدائنين من مقاضاة الشركة ريثما تعقد صفقة على إعادة جدولة ديونها.
بدا الوضع أشد تعقيداً مما تخيّلته السلطات السعودية، فتدابير التقشّف المعتمدة كانت فجائية وراديكالية، الأمر الذي أربك حسابات قطاع واسع من المواطنين. ويمكن أن نلحظ ذلك في مؤشرات تكاليف المعيشة بحسب احصائيات وزارة المالية السعودية. وبصورة عامة، فإن تكلفة السكن، والمياه، والكهرباء، والوقود ارتفعت في الفترة ما بين 1999 ـ 2015 بمعدل الضعف، فيما ارتفعت تكاليف السلع والخدمات المتنوعة الى الثلث في الفترة ذاتها..
في واقع الأمر أن 2007 كان العام الذي وضع كحد نهائي لبلوغ النسبة المئوية وفيما بعد ذلك بدأت تكاليف المعيشة تأخذ بالإرتفاع وبلغت أقصاها في 2015، ولاشك أنها في العام 2016 قد سجّلت رقماً قياسياً في كل المجالات، ولاسيما في مجالات الوقود والاتصالات والسلع والأغذية والنقل.
ارتفعت الأسعار بأكثر من ستة أضعاف منذ عام 1982 حتى عام 2016، في المقابل لم ترتفع الرواتب سوى مرة ونصف. وفي 28 ديسمبر 2015 صدر قرار مجلس الوزراء برفع الدعم عن المشتقات البترولية، وزيادة أسعار الكهرباء، والماء، والوقود.
تمّ رصد أهم 7 قرارات مالية تركت تأثيرها المباشر على حياة الأفراد في المملكة السعودية، والتي وضعت في سياق تطبيق رؤية التحوّل 2030 عبر تخفيض معدل الانفاق الحكومي وزيادة إيرادات الدولة. ومن أبرزها، ما جاء في قرار مجلس الوزراء في 25 سبتمبر 2016 رقم (551) إذ أجريت تعديلات جوهرية على نظام الرواتب، والبدلات، والعلاوات، والمزايا المالية إما بالإيقاف أو التخفيض.
لقد تمّ إلغاء أو إيقاف عدد من البدلات، والمكافآت، والمزايا المالية على جميع الأجهزة الحكومية، والتي بلغت51 بدلاً تشمل:
ـ بدل الاعانة، وبدل السكن، وبدل النقل، وبدل طبيعة العمل والتي تصل في كثير من الأحيان الى ما يعادل نصف المرتب الشهري، ووقف صرف بدل الانتقال الشهري للموظف خلال مدة الإجازة، وبدل عدوى وضرر (بالنسبة للعاملين في الحقل الصحي أو متعلقاته، مثل الحقل الزراعي والصناعي وغيرهما)، وبدل خطر.
ـ مكافأة التفوق، التي تصرف للموظف المتفوق في الدورات التدريبية؛ وبدل مظهر المنصوص عليه في لائحة الوظائف الدبلوماسية؛ وبدل الأجازة السنوية المقرر في بعض المؤسسات والهيئات العامة؛ وبدل الترحيل للمتدرب المقرر في لائحة هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات؛ وبدل تكليف للموظف المكلف بمهمة رسمية خارج مقر عمله، بالإضافة إلى تأمين وسيلة السفر له ولعائلته المرافقين له المنصوص عليهما في لائحة موظفي الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني.
ـ المكافأة الشهرية المضافة على الراتب، والمقررة في لائحة موظفي ومستخدمي المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، والمكافأة الشهرية المقرّرة لمنسوبي المؤسسة العامة للصناعات العسكرية؛ وبدل ندرة التخصص؛ ومكافأة اللجان الدائمة التي تصرف مقابل الجلسات أثناء الدوام، للمشمولين باللائحة المنظمة لشؤون منسوبي الجامعات السعوديين من أعضاء هيئة التدريس، ومن في حكمهم؛ واللائحة المنظمة لشؤون أعضاء هيئة التدريب بالمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني؛ وكذلك مكافأة التأهيل الأكاديمي للضباط؛ ومكافأة الشهادات العلمية للأفراد؛ ومكافأة الأعمال الجليلة.
ـ بدل التعيين؛ وبدل الترحيل لمن ينتدب مدة أو مدداً متواصلة تزيد على 90 يوماً؛ ومكافأة بقاء الموظف المنتهية خدمته لتسليم ما في عهدته؛ ومكافأة الحاسب الآلي؛ ومكافأة الدارسين أثناء عملهم في الخارج؛ وبدل طبيعة عمل رؤساء كتابات العدل وكتاب العدل؛ والعلاوة الإضافية عند الترقية؛ ومكافأة ضبط التستر.
يضاف الى ذلك إيقاف التعيين أو التعاقد على جميع الوظائف والبنود والبرامج ( الشاغرة فعلاً ) في جميع السلالم الوظيفية التي تصرف اعتماداتها من الخزينة العامة للدولة، حتى نهاية العام المالي الحالي 2016.
في المقابل، صدرت قرارات متوالية تقضي بفرض رسوم جديدة على تأشيرات العمل، وتشمل الخروج والعودة المفردة للمقيمين، وكذلك العمالة المنزلية، واعتماد التقويم الميلادي بدلاً من الهجري في جميع هيئات وكيانات الدولة بما فيها التعاملات المالية الخاصة بصرف الرواتب وعلاوات الموظفين، والذي أجرى تعديلاً في مواعيد صرف الرواتب، وكان الهدف هو توفير نصف شهر من رواتب الموظفين سنوياً، حيث أن السنة الهجرية تنقص عن الميلادية بنحو 15 يوماً.
وجاء في رسوم المخالفات المرورية والتي أقرّت من قبل مجلس الوزراء في 9 أغسطس 2016 وشملت 21 مخالفة، ورفع قيمة مخالفة عدم الإبلاغ عن الحوادث أو مساعدة المصابين إلى 10 آلاف ريال والسجن لمدة تصل لثلاثة أشهر. التفحيط مخالفة مرورية، ستواجه بغرامة 20 ألف ريال في المرة الأولى وتضاعف للثانية، وأن الحد الأقصى 60 ألف ريال مع حجز المركبة، والنظر في مصادرتها.
كما تم فرض غرامة لا تقل عن ألف ريال من ضمنها الوقوف على خطوط السكة الحديدية، ورفع غرامات بعض من المخالفات إلى 3 آلاف ريال كحد أدنى، و6 آلاف ريال كحد أعلى مع حجز المركبة على المخالفات على بعض المخالفات مثل قطع الإشارة الحمراء، واستخدام لوحة غير عائدة للمركبة، وغيرها. ومن بين الرسوم الجديدة تلك المفروضة على الطرق السريعة، وفي الطريق رسوم على (الزبالة)؛ وعلى إيجارات المساكن والأماكن التجارية.
وقد أثارت حزمة الضرائب الجديدة موجة سخط واسعة، كونها تأتي متزامنة مع إلغاء البدلات بما تمثّله من جزء جوهري من بنية الراتب الشهري للموظفين عموماً. وبحسب استطلاع قام به برنامج ريالي للوعي المالي المقدّم من مجموعة سدكو القابضة بالتعاون مع موقع سوق المال دوت كوم، حول الثقافة المالية للفرد في السعودية، بأن أكثر من 86% من المشاركين عانوا من التعثر المالي، وإن أكثر الأقساط التي تعثّر بها المشاركون كانت القروض بنسبة 44%، وأن 42 % من المشاركين في الإستبيان تخطّت أقساطهم الشهرية 60% من الراتب الشهري. وللسبب هذا، تمّ رفض تمويل 57% منهم من قبل البنوك بسبب ارتفاع معدل عبء المديونية لدى العملاء أكثر من النسبة المحدّدة من قبل مؤسسة النقد العربي السعودي وهي 33%.
من جهة ثانية، تعد البطالة معياراً فارقاً في قياس مستوى الأداء الإقتصادي، إذ إن إنخفاض نسبة العاطلين عن العمل يؤشر الى نشاط اقتصادي متصاعد وقادر على استيعاب أعداد من القادرين على العمل. في المقابل، تمثل زيادة نسبة العاطلين عن العمل مؤشراً على انكماش اقتصادي يؤول إما الى إغلاق باب التوظيف أمام القادرين على العمل أو تسريح أعداد من العمال لإختلال معادلة الانتاج والتسويق. فقد بلغت البطالة بين السعوديين، بحسب التقارير الرسمية، 11.75% لعاميين متتاليين، أي بواقع 651.305 مواطناً، عدا عن الأعداد الغفيرة من المؤهّلين للعمل ولكن لا يحصلون على الوظائف المتناسبة مع تخصصاتهم العلمية.
ويلفت التقرير الإقتصادي لعام 2014 والصادر عن وزارة الاقتصاد والتخطيط السعودية الى زيادة معدل البطالة بين الشباب في العام 2014 بالمقارنة مع 2013، وفي الفئة العمرية (من 20ـ29 سنة) من 28.4% الى 28.6% وكذلك الحال بالنسبة للإنات في الفئة العمرية نفسها. كما بلغ معدل البطالة لدى الجامعيين في عام 2014 ليصبح 17.5% مقارنة بنسبة 16.6% في عام 2013.
وكانت الهيئة العامة للإحصاء السعودية، وهي مؤسسة حكومية، قد أعلنت في تقرير لها عن الربع الثالث لعام 2016 بأن نسبة العاطلين عن العمل لمن تفوق أعمارهم الـ 15 عاماً هو 12.1%، بما يشير الى زيادة ملحوظة عن العام 2015. وبلغت نسبة بطالة السعوديين في الفئة العمرية من 25 ـ 29 عاماً نحو 39%، في حين بلغت 54% لدى حملة شهادة الباكلوريوس.
وفيما كان عدد العاطلين عن العمل بنهاية العام 2015 هو 363.8 عاطل، فإن عدد العاطلين، بحسب التقرير سالف الذكر، في الربع الثالث من 2016 قد بلغ 693.8 ألف عاطل. وتذكر وحدة التقارير في صحيفة (الاقتصادية)، أن معدل البطالة في نهاية الربع الثالث هو الأعلى منذ الربع الثالث 2012. وبحسب تقديرات شركة ماكنزي للاستشارات فإن معدل البطالة في السعودية يمكن أن يصل بحلول عام 2030 الى 22% بواقع 2.2 مليون عاطل، ويتراجع دخل الأسرة الحقيقي بمعدل 20% أخرى.
في حقيقة الأمر، إن تقديرات الخبراء الاقتصاديين المحليين تختلف تماماً عن الأرقام الرسمية وتؤكّد بأن نسبة البطالة أعلى مما تذكره الهيئات الحكومية، وأن هناك ما يشبه البطالة المضلّلة أو الخفية، وهي بحسب المحلل الاقتصادي برجس البرجس الوظائف المتدنيّة، التي يعمل فيها كثير من السعوديين، في ظل معيشة باهظة الكلفة، بما يجعل الراتب الذي يحصل عليه الموظف قاصراً عن تغطية النفقات الضرورية الأساسية مثل السكن، والنقل، والأكل واللباس، إضافة الى فواتير الكهرباء، والماء، والوقود.
وعطفاً على تلك المعايير تنقض مصادر أخرى معطيات الهيئة الوطنية للإحصاء وترى بأن نسبة البطالة أعلى بكثير مما ورد في تقرير الهيئة، وأن الرقم قد يصل الى 1.6 مليون عاطل، أي ما نسبته 36% وليس 12.1% بحسب تقدير الهيئة، بناء على تعريف متحفّظ للعاطل عن العمل.
في التقويم الإجمالي، ألفت السلطات السعودية في ضوء تجارب سابقة طبيعة ردود الفعل المتوقّعة، وإن سياسة التقشف المعمول بها ليست الأولى، فقد جرى تطبيقها مرات عدّة. ولكن ما يفرق هذه المرة أن تدابير التقشف تأتي في ظل مرحلة تحوّل سياسي واقتصادي محلي وتطوّرات دقيقة إقليمية ودولية. فالجيل الذي يدير البلاد ليس هو الجيل الذي حكم على مدى أكثر من ستة عقود، وإن انتقال السلطة الى جيل جديد، شاب في الغالب، له مخاطره، بسبب قلة الخبرة، وافتقاره للخصائص الكاريزمية، كما أن التحوّل الاقتصادي بالانتقال من اقتصاد قائم على النفط إلى آخر قائم على الاستثمار ليس تحوّلاً سهلاً بل يتطلب عملية انقلابية في مجمل مؤسسات الدولة، وسياساتها، وأبنيتها، وثقافتها، وهذا أمر لا يضطلع به شخص بعينه. كل ذلك يجري في ظل تصدّع الثقة بين المجتمع والسلطة، ولا ريب أن القرارات الراديكالية ذات الصلة بالوضع المعيشي للمواطن لا يمكنها صوغ مناخ ثقة، عطفاً على الرهان النمطي على سياسات ريعية تنطوي على أهداف متعدّدة من أبرزها ربط السكان المحليين بالدولة بوصفها مصدر الإطمئنان على الأوضاع المعيشية للمواطن، ومصدر الثقة الذي يجب أن يبقى ثابتاً وفاعلاً. ولاريب ايضاً، أن الفرمانات المالية الراديكالية قد زعزّت أسس الإطمئنان والثقة لدى قطاع واسع من السكّان، ولاسيما العاملين في القطاع الحكومي. فقد عادت نوبات القلق الشديدة إزاء المستقبل القريب، والعائد لنوع السياسات المالية والاقتصادية التي ألحقت أضراراً مباشرة وفادحة بالمواطن، فيما تلوذ القيادة السياسية في المملكة (وتشمل الملك وولي العهد وولي ولي العهد) بالصمت إزاء ما ينبغي فعله لمواجهة تداعيات القرارات الحكومية. لم يعد القلق مقتصراً على شريحة صغيرة بل هو إحساس ينتاب قطاع واسع من المواطنين.
خلاصة الأمر، إن الرسائل التي تبعث بها التقارير الاقتصادية الصادرة عن مؤسسات محلية ودولية حول تدهور الأداء الاقتصادي المحلي، ونسب البطالة والفقر المرتفعة، إلى جانب تدابير التقشف الصارمة والتي تلامس الحياة اليومية للمواطنين، والارباك المتفاقم في الأسواق المالية والعقارية المصاحبة لعمليات تسريح جماعية للعمال، تبعث على القلق من المستقبل. إن لجوء الحكومة السعودية الى وسائل أخرى بغرض إحباط مفعول ردود الفعل الاحتجاجية الأولية على الأوضاع الاقتصادية المتردّية عبر زيادة مستوى التخويف، أو حتى التمويه بهدف تظهير ما يشبه الحقيقة لطمس الحقيقة الفعلية، لإقناع الناس ولو مؤقتاً بأن حالهم أفضل، بالمقارنة مع غيرهم، أو توظيف القيم الوطنية في إسكات الغالبية المحرومة وإيصالها لقناعة بضرورة الصمت إزاء الصعوبات المعيشية التي تعاني منها قد تؤجّل لحظة الإنفجارات الشعبية على خلفية الأعباء الاقتصادية الضاغطة، ولكنها قد تجعل من العواقب النهائية غير قابلة للسيطرة. على أية حال، فإن انهمار الحقائق المفزعة حول الأوضاع الاقتصادية الراهنة والمستقبلية لا يدع مجالاً للمناورة وخداع الذات.
سعدالدين منصوري- الحجاز السعودية-