طارت الآراء والمقالات خلال الأسبوع الماضي في استنكار بعض التعاطي السلبي لأحداث إسطنبول ليلة رأس السنة، وكان هناك شبه إجماع على تبرئة القتلى من ارتياد ملهى ليلي وجاءت التأكيدات و(التطمينات) لتؤكد أنه مطعم (بريء) يقدم الموسيقى ككثير من المطاعم الراقية حول العالم. والسؤال هنا: وماذا لو كان فعلا ملهى؟ وهل داعش تفرق أصلا بين ملهى وبين مسجد؟ وهل الحكم على القتيل البريء سيختلف بحسب موقعه الذي مات فيه غيلة وغدرا؟
قبيل الأحداث بأيام انفجرت المواعظ تهول من تهنئة النصارى بعيد رأس السنة، وبحسب التراتبية العقائدية فسيكون القتل وسفك الدماء والسرقة أهون من التهنئة برأس السنة الميلادية الجديدة، وهذا ما أكدته تلك المواعظ والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي. هنا يجب ألا نتساءل عن تلك السلبية لدى بعضهم في تقييم نوعية القتل وتحميل الضحايا قدرا من المسؤولية عن قتلهم طالما أن الفضاء العام
مشحون بالتوتر وبث الأفكار بتلك الطريقة المؤسفة وفي غياب وعي دعوي يراعي الأولويات المنطقية الممكنة في التوجيه والإرشاد والدعوة.
الكثيرون يتصورون العالم مثلهم تماما يقيس الأمور بمعايير دينية أو مذهبية بحتة كما يفعلون، وبأقل قدر من التأمل والتدبر سيجدون أن تلك الشعوب (العلمانية) تحتفل بليلة رأس السنة غالبا كنوع من الرغبة في الفرح والبهجة وليس كمناسبة دينية، فضلا عن التداعيات الاقتصادية لمسألة الاحتفال وعوائدها الضخمة التي تعود للدول أو الشركات المنظمة لاحتفالات ليلة رأس السنة، وهذا ما لا يدركه الكثيرون للأسف حين يحكمون على بعض الدول والحكومات بتهمة التقليد أو الانسلاخ أو التبعية حين تعمل على جذب السياح من أرجاء العالم بفن الاستثمار المتقن لكل المناسبات، وبصورة بعيدة تماما عن هواجس العقيدة وتوترها من هذه الأشياء. لا يدركون أن الدافع هو سلوك اقتصادي بحت، وأن الارتباط الديني المسيحي في هذه الحالة غير حاضر إلا في دوائر ضيقة من المسيحيين المتدينين، وأن دولا أخرى غير مسيحية كالصين واليابان وغيرهما تحتفل بليلة رأس السنة، وهي لا تمت للمسيحية بصلة، لأن الأمر برمته يخرج عن كونه احتفالا دينيا إلى كونه حقيقة سياحية تدر أموالا.. هذه كل الحكاية.
أعود إلى الموضوع لأقول: إن على الخطاب الدعوي والوعظي أن يطور من لهجته في هذا الزمن الصعب وشديد التعقيد، وأن عليه أن يقدم الكثير من التسامح ومن طريق (شرعي) لن يؤاخذ عليه حين يفترض أن خطابه هذا (لتأليف القلوب)؛ لأنه إن لم يسارع بخطوة نحو هذا الأمر فإن صورته الحالية في أذهان الأجيال الجديدة ستترسخ على أنه خطاب مضاد للإنسان ولتطلعاته وفرحه وبهجته وتعايشه مع الآخر المختلف، وبالتالي فعليه أن يقدم لغة أكثر تسامحا؛ من أجل الحفاظ على هذه الأجيال ضمن الحاضنة الدينية والاجتماعية في هذا الزمن المختلف، ومن أجل إعطاء صورة حسنة – ما أمكن – أيضا للعالم عن دين كثيرا ما يقال عنه إنه دين التسامح، في حين أن أفعال وأقوال بعض أتباعه تكذب هذا الشعار المرفوع للأسف.
أخيرا.. ذلك القاتل الذي قتل الفرح ونشر الحزن في أكثر من 70 عائلة من ذوي الضحايا لم يكن ليقدم على مثل هذا الفعل الكبير لولا أنه لم يحقن بالكثير من التحريض ضد الآخر وضد الحياة، بصرف النظر عن أي تحليل آخر قد ينسب هذا الفعل لقوى استخبارية متعددة. تهمني المادة الفكرية المرفوعة كشعار لتبرير ذلك القتل والتي بواسطتها استطاعت تلك القوى استثمارها في إيقاظ حماسة عناصر شابة تستجيب لذلك الغسل الدماغي، هذا إذا افترضنا صحة نسبة تلك التنظيمات لجهد استخباري مثلا. إن ذلك التحريض ضد الحياة وضد الآخر قد يكون بالرصاص، وقد يكون في أحايين أخرى وكثيرة بلغة هادئة ناعمة ترمي البذور بخفة فتنضج بعد حين من الزمن على هيئة قنابل موقوتة موزعة.
وحيد الغامدي- مكة السعودية-