د. صالح النعامي- العربي الجديد-
يبدو أنه حتى إسرائيل باتت تعيد تقييم رهاناتها الأولية على الأزمة الخليجية، وتختبر من جديد تصوراتها بشأن انعكاساتها على خريطة مصالحها المختلفة. ويتبين أن الدوائر الإسرائيلية لم تعد تثق بقدرة الدول التي تحاصر قطر على إدارة الأزمة الحالية، إلى درجة أن التقديرات السائدة في تل أبيب حاليا تكاد تُجمع على التحذير من أن تفضي إلى نتائج عكسية.
فعندما تفجرت هذه الأزمة، جاهرت تل أبيب برهانها على أن تسهم في تحسين مكانتها الإقليمية، وتطوير قدرتها على مواجهة المخاطر الاستراتيجية التي تتهدّدها، وتوسيع وتعميق مظاهر التعاون مع الدول العربية، ولا سيما التي قادت المقاطعة ضد قطر، وصولا إلى التطبيع الكامل معها.
وقد بلغ الاحتفاء الإسرائيلي بالأزمة الخليجية أن الحماس استبد بوزير الحرب، أفيغدور ليبرمان، فأخذ يحاجج بأن مطالب دول الحصار تمثل مستوىً من المصالح المشتركة، تؤسس لتعاون استراتيجي مع دول الحصار.
وقد تبلورت قناعاتٌ لدى محافل التقدير الاستراتيجي في تل أبيب أن الأزمة الخليجية تزيد من فرص تكريس سياقاتٍ قد تمنح إسرائيل مزيداً من الأدوات، لتوظيفها في محاصرة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. وقد بدا الاستخفاف الإسرائيلي بقيادات الدول التي تحاصر قطر، إلى درجة مجاهرة بعض محافل التقدير الاستراتيجي في تل أبيب بالدعوة إلى توجيه هذه الدول إلى استغلال ثقلها المالي في إغراء المقاومة (الفلسطينية) بوقف إجراءاتها لتعزيز قوتها العسكرية.
وهو الهدف الذي لم تتمكّن إسرائيل من تحقيقه عبر ثلاث حروب، وحصار شديد. فلم يتردّد مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في حث دوائر صنع القرار في تل أبيب على استغلال الأزمة الخليجية، والطلب من دولة الإمارات تحديدا أن تعرض على حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، من خلال القيادي المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، أن تتولى تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار في قطاع غزة، بدل قطر، بشرط موافقة الحركة على "وقف مظاهر تعاظم قوتها العسكرية" (مجلة "مباط عال"، عدد 950).
لكن مع تواصل الأزمة الخليجية، وعدم وجود مؤشراتٍ على قرب انتهائها، ظهرت مؤشراتٌ واضحة على تراجع مستوى الرهانات الإسرائيلية على عوائد هذه الأزمة، وتعاظمت التحذيرات من أن تستحيل بعض الفرص التي أسفرت عنها إلى مخاطر. فتكاد تجمع كل الأدبيات التي تصدر عن مراكز البحث ووسائل الإعلام الإسرائيلية حاليا على التحذير من مخاطر إسهام الأزمة الخليجية في تعزيز مكانة إيران الإقليمية، عوضا عن إضعافها.
وحسب هذه الأدبيات، ستعقّد إطالة أمد الأزمة البيئة الإقليمية لإسرائيل، وتجعلها أكثر خطرا، لأنها قد تفضي إلى حدوث تقارب قطري إيراني تركي، يمكن أن يؤسّس لانطلاق محور جديد، سيقلص من قدرة إسرائيل على تحقيق مصالحها.
وحسب مركز أبحاث الأمن القومي (الإسرائيلي)، فإن أحد تداعيات الأزمة الخليجية الخطيرة تتمثل في إمكانية أن يسهم استمرارها في تفكك مجلس التعاون الخليجي، ما يزيد من تدهور البيئة الإقليمية للكيان الصهيوني، على اعتبار أن إسرائيل أفادت من دور المجلس، بوصفه المنظومة الإقليمية العربية الوحيدة التي عملت ضد إيران (موقع المركز، 25/6).
ولما كانت إسرائيل ترى في دور الولايات المتحدة الفاعل في المنطقة أحد مرتكزات أمنها "القومي"، على اعتبار أن تل أبيب توظف هذا الدور في ردع القوى الإقليمية الأخرى، فإن بعض التقديرات الصهيونية تحذر من أن إطالة أمد الأزمة الخليجية سيضعف مكانة واشنطن، وسيقلص دورها في المنطقة، بسبب تفرّق صف "حلفائها".
ومما يثير إحباط مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بدلا من أن ترمي بثقلها لإنهاء الأزمة الحالية، وبالتالي ضمان استقرار المنطقة، فإن كل ما يعنيها هو تأمين مزيد من العوائد المالية نتاج صفقات السلاح مع دول المنطقة، ما يوفر الظروف أمام إيران لتعزيز مكانتها ويمكّنها من تحقيق "أطماعها".
ويحذر المركز من أنه، في حال طال أمد الأزمة الخليجية، واستمرت مظاهر اللامبالاة الأميركية، وتعقدت الأوضاع الاقتصادية لدول المنطقة، ولا سيما السعودية، فإن إيران لن تكتفي بالتهام البحرين، بل وستتقاسم النفوذ والسيطرة في الخليج العربي مع روسيا (موقع المركز، 13/7).
وبغض النظر عن واقعية هذه السيناريوهات، فإنها تشي بتراجع الرهانات الإسرائيلية على مخرجات الأزمة الخليجية. وبخلاف حسابات دول الحصار، فإن نخبا صهيونية وازنة باتت ترى أن أكبر خطأ وقعت فيه دول الحصار تمثل تحديدا في تقديراتها غير الدقيقة بشأن قدرة قطر على الصمود، كما يستنتج المستشرق اليميني إيال زيسر.
وهناك مصدر قلق آخر يمثل قاسما مشتركا لكل من تل أبيب وواشنطن، بشأن تداعيات الأزمة الخليجية، لا يفصح عنه المسؤولون الأميركيون والإسرائيلية، ويتمثل في عدم الثقة بقدرة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، على اتخاذ قرارات "حكيمة".
ويفصح السفير الأمريكي السابق في تل أبيب، دان شابيرو (يعمل باحثا في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي) بأن مكامن الخلل الكبيرة في إدارة الحرب على اليمن لم تقلص فقط من مستوى الرهان الأميركي والإسرائيلي على قدرة بن سلمان على إدارة الأزمة مع قطر، بل إنها جعلت واشنطن تحديدا عازمةً على عدم السماح له بالإقدام على أية خطوةٍ ضد إيران، يمكن أن تؤثر سلبا على المصالح الأميركية والإسرائيلية.
وفي مقال نشرته صحيفة هآرتس (3/7)، كتب شابيرو "في حال كان لا بد من الإقدام على مواجهة إيران، فإن قرار المواجهة يجب أن يتخذ في واشنطن وتل وأبيب، وليس في الرياض".
والسؤال: هل لدى دول الحصار رد حقيقي على مسوّغات القلق الإسرائيلي؟