د. جلبير الأشقر - القدس العربي-
لقد شرحنا مراراً كيف واجهت الانتفاضة العربية الكبرى التي انفجرت عام 2011 سياستين متناقضتين تجسدتا داخل مجلس التعاون الخليجي:
- سياسة مواكبة «الربيع العربي» واحتوائه من خلال جماعة الإخوان المسلمين ضمن حدود النظام العالمي الليبرالي بقيادة واشنطن (هذا عندما كان منحى واشنطن الرسمي ليبرالياً، أي حتى وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة)؛
- وسياسة التصدّي للانتفاضة ودفع الأمور إلى الوراء بغية تصليب النظام العربي القمعي القديم، الذي طالما رعته واشنطن بتناقض صارخ مع ادعاءاتها الليبرالية لتوافقه مع مصالحها العظيمة في المنطقة.
وقد انتهجت إمارة قطر السياسة الأولى، سياسة الاحتواء الإصلاحي، بينما كانت المملكة السعودية قاطرة السياسة الثانية، سياسة الردّة.
هذا وقد تبيّن في الآونة الأخيرة بصورة متزايدة الوضوح أن إمارة أبو ظبي تجلس في المقعد الأمامي لقاطرة رجوع القهقرى.
والحال أن بين سياستي قطر وأبو ظبي تناظرا يكاد يكون تاماً، فبينما ترعى الإمارة الأولى الإخوان المسلمين وتستند سياستها إلى «القوة الناعمة»، قناة «الجزيرة» بالمقام الأول، ترى الثانية في الإخوان المسلمين ألدّ أعدائها وتستند سياستها إلى «القوة الخشنة»، القوات المسلحة بصورة أساسية.
فقد باتت دولة الإمارات صاحبة أعلى نفقات عسكرية لنصيب الفرد في العالم، إذ احتلت المرتبة الرابعة عشرة في الإنفاق العسكري العالمي لعام 2016 وفق معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (سيبري) الذي قدّر مصروفها للعام الماضي بما يناهز 23 مليار دولار، أي ما يزيد عن النفقات العسكرية الإسرائيلية بحوالي الربع.
وقبل ما يقارب ثلاث سنوات، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» مقالاً عن دور دولة الإمارات العسكري، ذكر في عنوانه اللقب الذي أطلقه جنرال مشاة البحرية (المارينز) المتقاعد آنذاك، جيمس ماتيس، وهو نفسه الذي عينّه دونالد ترامب وزيراً للدفاع في بداية هذا العام.
اللقب هو «أسبرطة الصغيرة» نسبة إلى المدينة/الدولة الإغريقية التي اشتهرت بتحوّلها إلى دولة عسكرية توسّعية، قادت القوات الإغريقية جمعاء في حربها ضد الفرس.
وقد تضمّن المقال تصريحات لجنرالات أمريكيين أشادوا بدور الإمارات العسكري ونفقاتها الضخمة (أي مشترياتها للسلاح الأمريكي)، وبالخدمات الجليلة التي تقدمها للقوات الأمريكية من خلال قاعدة الظفرة الجوية وميناء جبل علي.
وعن يوسف العتيبة، سفير الإمارات في واشنطن، نقلت الصحيفة الأمريكية قوله مفتخراً «نختلف عن جيراننا»، مع إشارته إلى أن دولته هي الدولة العربية الوحيدة التي شاركت في جميع الحملات العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة منذ الحرب على العراق في عام 1991، باستثناء احتلال هذا البلد في عام 2003 الذي لم تشارك فيه أي دولة عربية.
وقد ساهمت دولة الإمارات في حملات أفغانستان (من 2001 إلى اليوم) والصومال (1995 ـ 1993) وكوسوفو (1999) وليبيا (2011) وقصف تنظيم داعش (من 2014 حتى الآن). وختم السفير الإماراتي تصريحه بقوله متوجهاً إلى الأمريكيين: «نحن أفضل أصدقائكم في هذا الجزء من العالم».
هذا وقد ولّد حماس الإمارات في سياستها الرجعية إزاء «الربيع العربي» توتراً بينها وإدارة بارك أوباما بالرغم من كل ما سبق ذكره. فقد آثرت إدارة أوباما أن تستفيد من الخيار القطري وعملت على التوفيق بينه والخيار السعودي/الإماراتي، وذلك بالتوفيق في شتى الساحات بين قطبي النظام القديم والمعارضة الإسلامية بزعامة الإخوان، خاصة بعد أن احتدّ الصدام بينهما في عموم المنطقة إثر إطاحة عبد الفتّاح السيسي بمحمد مرسي من رئاسة مصر.
فشجّعت إدارة أوباما على تشكيل الائتلاف بين «نداء تونس» و«النهضة»، ودعمت مساعي التسوية في ليبيا برعاية الأمم المتحدة، وعملت على تحقيق تسوية على النسق ذاته في سوريا، كما على إحياء التسوية في اليمن بعد اندلاع الحرب الأهلية فيها.
وقد تعارض سلوك الإمارات مع كافة هذه المحاولات، وفي معظم الحالات بتحالف مع مصر السيسي، يجمعهما هاجس التصدّي للإخوان المسلمين. فتدخّلت الدولتان عسكرياً في ليبيا ولا تزالان، دعماً لقوى النظام القديم الملتفة حول خليفة حفتر.
وفي اليمن، عرقلت الإمارات محاولات وزير الخارجية الأمريكي السابق، جون كيري، الرامية إلى وقف القتال، وذلك بدورها الملحوظ في تسعير نار الحرب.
بل تقوم أيضاً، وبتعارض مع السياسة السعودية نفسها، بتشجيع الحراك الجنوبي على حساب حكومة عبدربّه منصور هادي المتحالف مع الإخوان المسلمين.
بالطبع، فرحت أبو ظبي لفوز ترامب بالرئاسة الأمريكية ورأت فيه حافزاً على تصعيد سياستها وفرصة لدفع السعودية إلى محاولة خنق قطر بغية القضاء نهائياً على الخيار التوفيقي.
أما المؤدّى المنطقي لتلك السياسة فهو تأييد الإمارات بالتحالف مع مصر لانعطاف في الملف السوري نحو القبول بحكم آل الأسد.
وقد نقل قبل يومين تصريحاً لقيادي في المعارضة السورية نوّه بأن وزير الخارجية السعودي «طالب بتغيير بيان الرياض الأول والرؤية بما يتماشى بقبول بشار الأسد في المرحلة الانتقالية (وخوض انتخابات رئاسية) بدون تحديد متى تتم هذه الانتخابات»، لافتاً إلى «أن الإمارات المتحدة هي من تدير الدفة للقضاء على الثورة وهي من قدّمت المقترح».