د. حسن نافعة- الوطن القطرية-
تختلف المدرسة الأميركية في العلوم السياسية اختلافاً كبيراً عن نظيرتها الأوروبية، وهو ما لمسته بنفسي عبر رحلتي الأكاديمية.. ففي مرحلة مبكرة من هذه الرحلة لاحظت أن المدرسة الأوروبية تولي اهتماماً خاصاً بالفلسفة والتاريخ وتعتبرهما رافدين لا غنى عنهما في التكوين العلمي والمهني لطلاب علم السياسة، بينما تولي المدرسة الأميركية اهتماماً أكبر بمواد أخرى يغلب عليها الطابع العملي، كالإحصاء وعلم النفس.
وهو الأمر الذي كانت له انعكاسات واضحة ليس فقط على السمات الأكاديمية لكل من المدرستين وإنما أيضاً على أسلوب عمل المؤسسات المسؤولة عن صنع السياسة الخارجية في كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
فعلى الصعيد الأكاديمي يمكن القول إن «المناهج السلوكية» سيطرت على أداء المدرسة الأميركية في العلوم السياسية التي أصبحت مولعة بكل ما هو «كمي» أو قابل للإحصاء إلى الحد الذي دفعها لابتداع أدوات لتحويل «الأحداث» إلى وقائع «قابلة للتكميم»، أي إلى أرقام يمكن الاعتماد عليها في رصد وتحليل الظواهر السياسية، بل والتنبؤ بما قد يطرأ عليها من تحولات..
ولأن هذا الولع، والذي استمر لسنوات طويلة، لم يسفر إلا عن نتائج هزيلة وأحياناً مضللة، فقد بدأت المدرسة الأميركية في العلوم السياسية تتراجع لصالح المدرسة الأوروبية الأكثر عمقاً والتي راحت تستعيد مكانتها من جديد.
أما على الصعيد الدبلوماسي فيمكن القول إن الولع بالجوانب الإجرائية والشكلية سيطر على أداء المراكز الأميركية لعملية صنع القرار في السياسة الخارجية، على حساب الجوانب الموضوعية والقيمية، وأصبح هناك ميل غريزي لاعتماد أسلوب «إدارة الأزمات» عند التعامل مع المشكلات الدولية، بدلاً من التعاون مع المجتمع الدولي لبحث أنسب السبل لحلها، وازداد الهوس بفنون صك المصطلحات المراوغة لمساعدة الإدارات الأميركية المتعاقبة على تذليل العقبات التي تعترض طريقها في إدارة الأزمات، بما يكفل تعظيم المكاسب إلى أقصى حد ممكن وأو تقليل الخسائر إلى أدني حد ممكن وهو البعد الذي يحتاج إلى تفصيل في مقال اليوم.
فكلنا يذكر مصطلح «عملية السلام»، والذي حرص هنري كيسنجر، مستشار الرئيس الأميركي نيكسون للأمن القومي ووزير خارجيته، على صكه قبيل انطلاق رحلاته المكوكية بين العرب والإسرائيليين عام 1973..
إذ يوحي ظاهر المصطلح بأن الهدف المعلن من هذه الرحلات المكوكية هو التوصل إلى تسوية نهائية للصراع العربي الإسرائيلي، أما الممارسات الفعلية على الأرض، فكانت تؤكد أن الهدف الحقيقي هو تفكيك التلاحم السياسي والعسكري العربي الذي تحقق إبان حرب أكتوبر وقطع الطريق على إمكانية تكراره في المستقبل، حتى لو تطلب الأمر قيام إسرائيل بتقديم تنازلات محدودة أو تكتيكية..
وفي سياق تحقيق هذا الهدف الحقيقي، راح كيسنجر يسعى بكل السبل المتاحة لإغراء مصر أو دفعها دفعاً لسلوك الطريق الوحيد الذي تم فتحه أمامها، ألا وهو طريق التسوية المنفردة. ولترويض العقل العربي على ما يحاك له، كان على الإدارات الأميركية المتعاقبة تذكير الأطراف المعنية بصعوبة تحقيق السلام الشامل دفعة واحدة، وبالحاجة الماسة إلى «عملية إجرائية» للتحرك بحذر نحو الهدف المرسوم (سياسة الخطوة-خطوة)، وبأن الانتقال من نقطة إلى أخرى يحتاج إلى «إجراءات جديدة لبناء الثقة».. إلخ..
لذا يمكن القول إن التحرك العربي على الطريق الذي رسمه كيسنجر بدأ بإبرام اتفاقية فصل القوات على الجبهة المصرية عام 1974 ووصل إلى محطته الأخيرة بإبرام اتفاق أوسلو على الجبهة الفلسطينية عام 1994، وهو الاتفاق الذي وضع نهاية فعلية للصراع «العربي-الإسرائيلي» ومهد الطريق نحو الشروع في التصفية الفعلية للقضية الفلسطينية حين تتهيأ الظروف المناسبة.
اليوم يتفتق ذهن دونالد ترامب عن مصطلح جديد هو «صفقة القرن»، وهو مصطلح يوحي ظاهره بأن الإدارة الأميركية تبدو عازمة على معالجة كافة قضايا المنطقة، بما فيها القضية الفلسطينية، في إطار صفقة واحدة متكاملة، أما الممارسات الفعلية على الأرض فتشير بكل بوضوح إلى أن الهدف الحقيقي هو تشكيل تحالف عسكري لمواجهة إيران، تشارك فيه إسرائيل جنباً إلى جنب مع الدول العربية السنية، تمهيداً لتصفية القضية نهائياً..
إذ يبدو أن إدارة ترامب باتت مقتنعة الآن بأن تصفية القضية الفلسطينية يمر حتماً بتدمير نظام ولاية الفقيه في طهران.. فمتى يستوعب العرب درس التاريخ ويتمكنوا من تجنب الوقوع من جديد في شراك المصطلحات الأميركية الخادعة؟