مهنا الحبيل- الجزيرة نت-
لم يكن مفاجئاً إعلان الشيخ تميم بن حمد أمير دولة قطر قرار الصناعة الإستراتيجية الجديدة لخطة دولته، بعد إعصار الأزمة الخليجية التي لم تقف عند الحصار بل تعدته إلى ما هو أبعد من ذلك، وخاصة توجهات الاجتياح أو التحريض المباشر لإسقاط منظومة الحكم في قطر، بإعلانات رسمية متتالية من دول المحور.
وهي قضية لم تَستوف اليوم كل دراساتها الفكرية والسياسية، لكون زلزالها الاجتماعي على وحدة النسيج العربي في الخليج -المتشابه في كل سماته وطبائعه إلى حد التطابق في بعض المسارات- لا يزال يعصف بالوجدان النفسي والرواق السياسي المتوتر.
غير أن انكسار الأزمة وسقوط تشجيع ترمب الذي أعطى الضوء الأخضر كان مقابل عنصرين رئيسيين هما:
- ضمان هيمنة حكومته وعهده تحديداً على مشروع الغاز العالمي الذي أغراه، فدعم فكرة الاجتياح النسبي أو الكلي لكونه سيُشكل له ولخطابه الشعبوي المتطرف فرصة تاريخية لهزيمة التهديد الروسي والصيني.
وذلك من خلال الإطباق على قرار الغاز العالمي في حقل حالول القطري، وحقل العثمانية في الأحساء شرق المملكة العربية السعودية. وبموازاة ذلك، فتح آفاق أكبر وأوسع من تسلمه ثروات محدودة في صفقة العقود المليارية، وإمطار الأميركيين بوظائف تملأ جيوبهم وتعزز سلطته الحالية ودورته الانتخابية القادمة.
- العنصر الثاني الذي كان يُبث بكثافة تزامناً مع أزمة الخليج هو ضمان تحقيق اختراق تاريخي لأمن إسرائيل يستثمر فيما بعد الاجتياح، بحرب نوعية على غزة مزدوجة المحور بين إسرائيل ومصر، وتغيير احتلالي للبعد الديني للقدس، فبروز هذا التصعيد خلال أوج الأزمة لم يكن عبثاً، ولكنه في سياق محدد.
غير أن المشهد الأبرز للخطة الإستراتيجية تعثر في الدوحة، ثم في غزة والقدس، وتراجع خيار ترامب كلياً أمام معارضة فريقه الدبلوماسي والبنتاغون، ليس حباً في قطر ولا رفضاً لفكرة التحالف العربي الإسرائيلي الجديد، ولكن لقناعة هذا الفريق بأن ترمب أعطى دعماً جنونياً للمحور الخليجي في اجتياح قطر.
وهو ما كان بالإمكان أن يُفضي إلى حرب إقليمية تفقد عبرها واشنطن مصالح كبرى لصالح الروس والإيرانيين، فضلا عن أزمة سياسية تاريخية ستُطبق على الخليج الجديد، الذي أثبتت له التجربة أن قواعد الأميركيين لم تكن أبداً حليفا صادقا ولا مؤتمناً.
لذلك كان قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معزِزاً رئيسيا لإعاقة الاجتياح العسكري، وهو يؤخذ في هذا السياق العلمي وليس كانتشار واسع يأخذ بعده العثماني القديم، وهو الاجتياح الذي لم تكن قطر لتتضرر منه فقط بل المنطقة كلها، خاصة الدولة السعودية التي نجحت إمارة أبو ظبي في جرها إلى واقع مروّع، وسياسات خطيرة هي التي ستمهد لبنية خطط تقسيم باستهداف الأحساء (المنطقة الشرقية السعودية).
الضامن الإقليمي الوحيد المرشح للغرب هو أبوظبي التي تقدمت في الداخل السعودي كثيراً، وآثار استهدافها لسنّة الأحساء -عبر الخلية الإسرائيلية في أبو ظبي- نموذج مشروع منتظم، له أبعاده اللوجستية والسياسية المنهجية مع خرائط المنطقة الجديدة.
ليس المقصد هنا مذهبي، وإنما هدف الحملة توتير العلاقات بين الدولة والبناء الاجتماعي السني الإصلاحي الذي اتُهمت شخصياته بأنهم انفصاليون، وقيادة خلية إسرائيل في أبو ظبي -من خلال جسور لوبيها في واشنطن الحيوية مع تل أبيب- هذه الحملة، وهو ما يعزز هذا الفراغ، في ظل انهيار لأي خطط إصلاحية ضرورية سياسية للدولة، وغياب معالجة التطرف والغلو المذهبي بتوازن إسلامي وطني، بدلا من مواجهات عنيفة مع التيارات المحافظة والإصلاحية.
والمشروع الدولي الذي يرقب زيادة العنف والرد الأمني الذي يجري في القطيف له علاقة مباشرة بأجواء التدخل، ودور عزل البنية الوطنية الاجتماعية السنية في تحقيق حل مدني للمنطقة بطائفتيها، يتحول إلى ركيزة استقرار وطني شامل للمملكة يمنع فرص التقسيم.
هنا دور أبو ظبي في فرز البنية الديمغرافية السنية عن نجد مستقبلا وإسقاط هيكل الدولة، فنجد في الحتمية التاريخية والجغرافية للجزيرة جزءا متحدا مع الأحساء من قبل الدولة الجبرية وبعدها، هذا هو سياق كل التاريخ، وما اعتبر تمردا لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب على "الإسلام السني" الذي مثلت ركيزته الأحساء في كل الخليج العربي، أو أي خلافات تاريخية منذ أيام الردة في عهد الخليفة أبي بكر، لا يفصل البناء العروبي الإسلامي المتحد للمنطقة.
فالاعتدال السلفي الذي يقوده الشيخ سلمان العودة وشخصيات أخرى في نجد، ومدرسة الأحساء هما القادران على تصحيح التطرف في الشق الشرعي، فيما تحتاج الدولة لإصلاح مدني عميق، وهو إصلاح شرعي ومدني برفق من داخل البنية الديمغرافية للمجتمع.
أما مشروع أبوظبي فيستثمر حالة التطرف والغلو السلفي للتهيئة للمشهد الجديد، باستئصاله العنيف الذي يؤدي لسقوط الدولة القُطرية في فوضى شرسة.
هنا أيضاً يجب التذكير بقرب تل أبيب الدائم من فكرة التقسيم والتفتيت لجغرافية الشرق ثم استثمار ذلك، والتعامل مع الفدرالية التقسيمية وبعدها الطائفي التي لن تنفع السُّنة ولا الشيعة، وإنما هي مدخل فوضى دموية لرؤية الخريطة الجديدة التي حذر الكاتب منها قديماً.
وطموح أبو ظبي المضطرب له تجارب في سلطنة عُمان واليمن وفي الوطن العربي والعالم الإسلامي، حوّلت فيه أبو ظبي -مع من دَعمَها واستخدمتهم- صورة مشروع الشيخ زايد في العمران والنهضة إلى حروب إقليمية وفكرية، وثورات مضادة ظلامية انتهت إلى براكين دماء وانقسامات اجتماعية، لن ينساها التاريخ العربي.
فقُوضت تلك الصورة الجمالية للعهد الإماراتي الأول إلى نموذج بشع في إدارة الفوضى الخلّاقة لصالح الغرب، الذي سيبقى حدسه يتركز على تحويل أي حدث درامي لمصالحه المالية والإستراتيجية، فالخليج العربي تاريخياً لدى الغرب هو سلة حديقة خلفية لا شريك مصالح، إلا إذا اضطُر للتعامل عبرها بقواعد السياسة الذكية التي تغيب في الخليج العربي كثيرا.
المهم اليوم أنه منذ انكسر قرار ترامب - باتصاله برئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي بعد ضغط فريقه الذي شرح له كارثية مآل دفعه لحرب خليجية جديدة - وانعكس أثر اتصاله على بيان القاهرة، وهو منذ ذلك الحين يتراجع، كما هي خسائر دول المحور في قرار استهداف قطر.
وكانت هناك فرص كبيرة لتقليل الخسائر لو أوقفت الرياض تحالفها مع مشروع أبو ظبي، واتجهت لنداء العقلاء بالخروج كلياً من مشروع ولي عهد أبو ظبي الإقليمي، والتعامل كدولة مركزية تدرك مصالحها الكبيرة في المنطقة؛ فتُنجز اتفاقا مع الدوحة بعيدا عن أجواء 2014 وقائمة المقاطعة لتحقق توازناً نوعياً لصالحها.
ولا نعرف إن كان قد بقيت مساحة لمثل هذه المراجعة المهمة للدولة السعودية قبل تضاعف الخسائر على المنطقة.
والحصار الذي فرضه الكونغرس على ترامب مؤخراً، مع البعد المعنوي المهم الذي أُضيف إلى اضطرابات قرارات تعييناته، ثم اشتراطات موظفي البيت الأبيض الجديد عليه لوقف سخافاته السياسية والاجتماعية التي أضرت بقوة المكتب البيضاوي عالميا، ثم توسع دائرة الاتهام السياسي لدور المخابرات الروسية في فوزه.
كل ذلك يخلق برنامجاً مزدحماً ومقلقا لترمب يتراجع فيه تأثيره على الأزمة الخليجية، ويتعزز دور فريقه الدبلوماسي الذي كثف التنسيق مع تركيا وبرلين وباريس لتصفية أي أبعاد عنف أو عسكرة للحالة الخليجية، والضغط لإنجاز تسوية سياسية ترفضها دول المحور حتى اليوم، لكنها لم توقف المرحلة البرزخية في الانتقال السياسي للخليج العربي التي بدأت اليوم بالفعل.
ويجب التنويه هنا بأن حديث الوزير الإماراتي أنور قرقاش المتتالي -كناطق غير رسمي باسم دول المحور تُنشر كل تصريحاته وتغريداته فوراً حتى قبل تصريحات مسؤولي الدولة المحلية- كانت تستشعر هذا القلق، وهو محاولة لاستعادة التوازن الخطابي والسياسي بدلا من التحريض الذي يسود المنصات الرسمية، بغية الحصول على أي تنازل سيادي لقطر تَعبُر به دول المحور إلى نصر سياسي معنوي.
وهو ما عقّد الأمور من خلال تحييد أبو ظبي لدور الرياض المركزي، والذي كان خروجه من المحور وعقد اتفاق تسوية ثنائي سيساعد بقية الأطراف للخروج من مأزقهم مع ترمب.
لكن رسائل قرقاش وتهديداته الناعمة لم تعط أي نتيجة مع الدوحة، بسبب إصرارها على ذات الطريق الذي فشل، وهو ما عرّض الخليج العربي لتقدم إيراني كبير ساهمت فيه الأزمة، بعد أن حققت طهران تقدما حاسماً في العراق وسوريا، وبعد أن أثبتت التجربة أن توظيف الأطراف المتعددة في الخليج والمتخاصمة للسلفية الجهادية كان حقلا فجّر الألغام لمصالح إيران الكبرى.
وعزز التطرف وثقافة قهر الإنسان في الحروب الطائفية والصراع القومي في الخليج، دون أن تستفيد شعوب المنطقة العربية ولا الشعوب الخاضعة لدولة إيران -من فرس وأذريين وعرب وكرد- أي فوائد تنقلهم لدول استقرار وتنافس سياسي، بدلاً من حصاد الحروب المذهبية والقومية وتقويض قيم الإسلام المدنية.
ولذلك فإن ما يجري من محاولة خليجية لتحييد إيران عبر اللعب في ملعبها مع حكومة حيدر العبادي، أو الاتفاق مع علي عبد الله صالح لوقف الحرب بين التحالف العربي وبينه والحوثيين، مقابل إشعاله وضمانه لحرب أهلية بين الإصلاح اليمني والحوثيين، هو نقل للمنطقة من كارثة إلى كارثة أكبر، ولن يهزم طهران مطلقاً التي عادت واشنطن للتنسيق معها من جديد.
فقضية الشراكة الأميركية مع إيران تعتمد على مصالح جيوسياسية على الأرض، لا علاقة لها بتصريحات الفلكلور التي أطلقها ترامب في الخليج، هذه هي مهمة العقل الأميركي التاريخية، ولا يعني ذلك عدم وجود صراع مع إيران، لكنه صراعٌ يَضبط مصالح واشنطن. ورغم أن رئيسها قد ورّط دول المحور في قضية قطر، فإنهم دائما ينظرون لعقل فارس كشريك إقليمي، مرجّح على مغامرات خليجية يُعاد استخدامها لقواعدهم وبنوكهم.
هذه الخلاصات الكبرى فتحت الباب على التشكل الجديد للخليج العربي، والذي لن يُوقف مسار تشكله حملة وتهديدات صحيفة الشرق الأوسط وقناة العربية وإعلام أبو ظبي للكويت المستمرة، ولا يتوقع أن تُغير توجهات الشيخ صباح الأحمد بعد الدعم الشعبي الذي تحقق لوساطته، فالحملة تسعى لخروج الكويت من أي مشاركة في هذا التشكل الجديد الذي لن يكوّن دول محور متّحد أمام محور 3+1.
وإنما سيُشكل مع الدور العُماني الجديد بنية سياسية تتعاطى مع الإقليم والعالم برؤية مستقلة عن المحور، وقد اعترف الوزير قرقاش بذلك وبقناعته بأن المحور سيبقى قائما مع مصر منفصلا عن بقية دول الخليج، وأكد ذلك مضي التعاون العسكري بين الكويت وتركيا، وهو ليس وليد اتفاق اليوم، ولكنه جاء ضمن توازنات سعت الكويت لإقرارها أمام الخطر الإيراني، الذي أثبته تهريب طهران لخلية العبدلي من قلب الكويت.
وكان بالإمكان أن يكون متوازناً لصالح كل الخليج العربي كتعامل سيادي للمصالح مع أنقرة، وليس فتح أبواب بالجملة كما يروج البعض، ولا عبر الشعبية السطحية الساذجة التي تقدس الزعيم العثماني أرطغرل، فالسياسة مصالح متوازية ومتوازنة، ولو كان الخليج العربي قد أحسن صناعتها جماعيا بدلاً من حصار قطر لما تراجع أمام إيران، وبات أمنه الوجودي مرتبطا بمغامرات مواسم العربدة الأميركية.
إننا إذ نوجه رسالتنا اليوم للدور السعودي وللأمير محمد بن سلمان تحديداً، في ظل مستقبل تفويضه قيادة المرحلة الإستراتيجية القومية للمملكة؛ فإننا نعرضها كوجهة نظر مخلصة -بعد أن اعتزلنا العمل السياسي قبل وبعد المهجر، وأعلنا توجهنا المستمر للتفرغ الفكري- من خلال انتمائنا لأرضنا الطيّبة في الأحساء، وذاكرة كفاح أجدادنا الجبريين في جموع أهل الأحساء أمام الغزو الغربي.
وكل عاقل ووطني من أبناء الخليج العربي وأمتهم العربية الإسلامية والإنسانية الراشدة، لا يتمنى بل يخشى بقلق كبير من مرحلة سقوط الدولة السعودية، الذي سينتهي إلى كوارث كبرى داخلها وفي الشرق، فيما تكون إعادة صناعة الدولة بالبدء بسحب ملفات التوتر الإقليمي وإغلاق الأزمة مع قطر.
وإطلاق بنية الإصلاح المدني الداخلي عبر فريق من التكنوقراط المخلصين سيُعطي الأمير فرصة تاريخية لمرحلة التجديد للدولة، التي تنتظر بفارغ الصبر إطلاق المعتقلين السياسيين، وإطلاق حرية الرأي في المجتمع الوطني.
فهل هذه الرؤية هي مدخل الحل الموضوعي المعتدل، أم مشروع المواجهة الداخلية التي تدفع لها أبو ظبي وسفهاء الارتزاق الليبرالي؟ إنها لحظة تاريخية أمام الأمير يحتاج -على أقل تقدير- أن يتأملها بعمق، قبل أن تنتهي مساحة التدارك الوطني ويَحسم الزمن الإسرائيلي.