مهنا الحبيل- الوطن القطرية-
أثار المشهد الأخير للأزمة الخليجية أسئلة كبرى في مستقبل حلها القريب، وإن كان هذا الحل بمعنى المصالحة الشاملة لم يكن مطروحاً في رؤية المراقب السياسي للمنطقة، لكن التصعيد الأخير، الذي وصل إلى حد إعلان تبني مشروع رسمي سياسي في إزاحة الحكم في قطر، والمنظومة المتآلفة في أسرة آل ثاني الحاكمة وفي البناء الشعبي، أعطى مؤشراً سلبياً للغاية لفرص معالجة هذا الشرخ حتى بعد انصرام الأزمة.
الغريب أن أي مجال ممكن يُحدث تغييراً موجهاً ضد قطر، لتغيير استقرارها السياسي وبعثرة سلمها الأهلي، غير وارد مطلقاً بناء على ما يرصده المراقب، ويُدركه من حجم تضامن الأسرة الأميرية والالتفاف الشعبي مع حكم الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
هذا فضلاً عما يعنيه ضرب السلم الأهلي لتماسك الشعب المتناسق إسلاميا وقيميا وعربيا واجتماعيا، من مضار شنيعة لا يمكن أن يُقدم عليها شعب، يعيش مستوى من الرفاهية ومساحة وطنية متصالحة، وإن بقيت له طموحات أكبر، فهو يسعى لتحقيقها عبر مشروع النهضة الحديث، الذي يقوده الأمير الشاب الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، هذا هو صوت الناس الذي نقرأه بوضوح.
والوصول إلى هذه المعادلة ليس صعباً لإدراك الوضع القطري، فكيف اندفع الخصوم إلى هذا المستوى الخطير؟
والذي يتزامن مع خسائر ترامب المتتالية، كراع دولي سابق لمشروع اجتياح قطر، وتغيير مؤسسة الحكم، وهو المشروع الذي انهار، ويتعزز مقابله معادلة دولية وإقليمية يتزايد تثبيتها على الأرض.
وتشمل تفاهما تركيا أميركيا، ودعما أوروبيا وإقليميا وعالميا، برفض أي تهديد للمنطقة يقوّض ما تبقى من سلم فيها بعد كوارث الصراعات في الشرق، منذ بدأت الثورة المضادة للربيع العربي، أو حتى من أخطاء واختراقات تعرضت لها حركات الربيع العربي.
أي أن فُرص التغيير السياسي العدائي أكثر ضعفاً من المشروع العسكري، والموقف الدولي أكثر رفضاً له، فلماذا يُقدم عليه، وقد ترتد الرسالة إلى الدول الأخرى ومنها المملكة العربية السعودية، في وقت المملكة بحاجة ماسة للتضامن الوطني والمشروع الإصلاحي واستعادة مكانتها السياسية.
وقد يُفهم من تبادل الوزير قرقاش التعبير عن مطالب التصعيد الأخير بتبني انقلاب سياسي في قطر، إنه ضغط لتتنازل قطر عن مواقف سيادية، وهذا لم يحصل مع التهديد بالاجتياح العسكري ولن يحصل بما هو دونه.
وإنما الحل بالعودة إلى منهجية عقلية، لا ملاعنات إعلامية ترسم خيوط الاتفاق النهائي لفك الاشتباك، وفك الاشتباك هو الممكن في هذه المرحلة لا غيره، فإن قدّر الله وسلمت المنطقة وجغرافيتها السياسية من آثار هذه الحملة العنيفة، فستحتاج أولاً إلى بناء ثقة أوّلي لإجراء توافقات عامة للتجاور السياسي قبل أي تطوير للعلاقات، بعد أن هُدمت أركان التعايش السياسي اليوم، وليس أسس المجلس الخليجي فقط.
هنا يبدو موقف الكويت الحاضر الغائب، كونها قد حظيت بثقة كبيرة وبدعم دولي لمبادرة الشيخ صباح الأحمد في تبني فك اشتباك يؤدي لمصالحة، ستكون مصالحة نسبية لا كلية قطعا.
ولعل أهم إشارة لتوقفات الشيخ صباح الزمنية، والتي لم تؤد لانسحاب من المبادرة إطلاقا، ولا نظن أنه سيفعل، هو ما برز من إدراك الأمير لكثافة الانفعال العاطفي في الأزمة، وغياب صناعة معالجة الدور الدبلوماسي، والذي تأكد في هجوم فريق العربية والشرق الأوسط الشرس على الكويت، وعليه فإن من الضرورة أن تُترك هذه المساحات تتنفس، ما دامت لاتزال تؤثر على الساحة السياسية للأزمة، وألا يصطدم بها الوسيط الكويتي.
هل كان ذلك بالفعل ضمن إدراك الشيخ صباح والخريطة الكويتية للحل، لا يوجد تصريح رسمي، لكن المؤكد أن حنكة الشيخ صباح وخبرته الطويلة تعزز مثل هذه التوقعات في طريقة التفكير الاستراتيجي، خاصة بعد أن تفشل خطة التلويح بالتغيير السياسي العنيف في قطر، بعد أن فشلت خطة الاجتياح العسكري.
وتبدو اليوم الساحة الخليجية مضطربة للغاية، فمع تغير المستقبل الجيوسياسي لصالح إيران في سوريا والعراق واليمن، واضطراب المواقف الأميركية، التي تستفيد منه طهران وتعيد إرسال الترغيب أو الترهيب بإخضاع الساحل الخليجي إلى حالة استقطاب تصب خيوطه كلها في يديها.
وحديث الوزير الأعرجي والتواصل مع البنية السياسية الشيعية، الخاضعة لنفوذ إيران يبرز هذا التحدي الجديد، في ظل تصعيد أزمة الخليج وإعلان الحرب المتكرر على الإسلاميين السُنة، والذي يُعرّض المنطقة لهزات أكبر لا تستقر فيها، وتفقد مناعتها أكثر من أي وقت مضى.
هذا المشهد تحت رؤية الموقف الكويتي وخاصة الشيخ صباح الأحمد، ومن هنا نفهم توثيق الاتصالات العسكرية الأخير مع تركيا، كمحور توازن لا محور بديل، لإيمان الكويت أن حساب المصالح والاستراتيجيات النسبية والكلية، لا يُمكن أن تتحقق دون ميزان ردع سياسي وجيوسياسي يسبق أي تدخل أو اضطراب واسع.
وهذا الأمر لن يُغيرّ من علاقة الكويت الدولية واتفاقاتها العسكرية، لكنه سيضيف بنداً إقليميا مهما تمثله أنقرة، بلغة المصالح لا لغة العواطف واستدعاء العهد العثماني.
إن عودة الأزمة الخليجية لتأخذ فصولا شبيهة بما كان عليه الوضع في قضية الاجتياح العراقي للكويت، وهي الخطيئة الكبرى التي استثمرها الغرب لتدمير العراق، وهيمنت مصالحه ومصالح إيران في الخليج، هذه الفصول تستدعي ذاكرة خطيرة عاشتها الكويت ودول الخليج العربي، في إعلان حكومة مؤقتة باسم الكويت المتمردة على حكم الشيخ جابر الصباح، ويُدرك الشيخ صباح حجم خطورة استدعاء مثل هذا السيناريو حتى عبر التهديد السياسي الذي لا يوجد له تطبيق ممكن.
وبالتالي فإن ما يمكن التعامل معه هو ترك هذا المتنفس المضطرب، يأخذ مجراه حتى يهدأ المشهد ويُدرك الجميع أن لا حل إلا بالحوار والاحترام السيادي لدول المجلس، والخروج كليا من اتفاق 2014 ومن قائمة القطيعة والتصعيد، وقد لا يطول هذا التصعيد الأخير لأكثر من شهور، وقد يستمر في انخفاضه وصعوده، بسبب التصعيد الإعلامي، الذي يعقّد قطعا أي مشاورات تسوية، فضلاً عن مشاعر الغبن التي يعيشها الناس في المنطقة، حين تستدعى كارثة الخليج في 1990 لتكون مهددات بين شعوبهم.
وهنا لدى الشيخ صباح قدرات نوعية في ترحيل جهود حل الأزمة، إلى العمل على تحييدها تدريجياً من فوق طاولة الخليج العربي ومستقبل دوله السياسي، وربما قد يكون من المناسب حسم قضية العلاقات القطرية مع دول المحور بتفويض دولة قطر سلطنة عمان التي تنسق مع الكويت.
وكما هو العرف الدبلوماسي السائد، لتتولّى مسقط شؤون رعايا دولة قطر، وشؤون زيارتهم للحج والعمرة، وأي قضايا اجتماعية ومعيشية أخرى، والتعاون القطري العماني توسع بصورة كبيرة، ودشن محطة جوية وبحرية لتبادلات ضخمة لمصالحهما.
حينها لعل الشيخ صباح وبعد فترة يقدرها ظرفيا، يدعو لوقف الحملات الإعلامية، وفي تقديري أن الحملات الإعلامية اليوم هي التي تُفسد الكثير من أجواء فرص الحل، في ظل تهديدات وملاعنة مباشرة كارثية، وتعرّض للأعراض وبحسابات رسمية وغير رسمية، لم يسبق لها مثيل، وهي المدخل الأول.
لكن متى يرى الشيخ صباح جدوى توجيهه لمثل هذه الرسالة، هذه قضية دقيقة في مضمار تفكك الأزمة.
ولعل توجهات قطر ببدء مرحلة صناعتها الاستراتيجية الجديدة، التي ستشمل المستقبل الوطني والأفق الخارجي، بعد النجاح الذي حققه التضامن الشعبي الداخلي، يدفع لفصل خطوط الاشتباك التي تُسعّر من البعض ضدها، وهي مهمة وضح العزم عليها في خطاب الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
فانشغال مؤسسات الدولة وحراكها الشعبي الجديد بها، سيوجد فاصلاً تنفيذيا لخريطة الاشتباك السياسي مع دول المحور، ولا نقصد أن نُلغي حق الرد لقطر، ولكن كفالته في إطاره المحدد، مع بدأ العهد الجديد والانفتاح على مشروعها للنهضة مع العالم، سيحوّل الوطن القطري وفكره الثقافي والسياسي إلى ورشة عمل، نتائجها أكبر بكثير من الرد على كل الحملات البشعة.
حينها ولا نعرف خريطة زمنية لذلك لكن، سيأتي وقت لعودة طاولة الكويت للحوار، وتنظيم فك الاشتباك، وعودة ما يمكن عودته، وإلا فالزجاج الذي انكسر لا يرممه أحد، وبالجملة فإن هذا الهدف لتحقيق فك الاشتباك كويتيا، هو مطلب رسمي وشعبي ضروري.
كما هو سلامة أي دولة من ابتلاع قرارها وسيادتها، فهذان الخطان هما محور الحراك الكويتي ورؤيتها الاستراتيجية، من خلال قدراتها الخاصة، فيبقى أن تاريخ التجاذب الدولي في الخليج، وفرص اقتحامه فوق طاقة الكويت وغيرها، خاصة حين هُدمت أسوار الخليج من داخله بعد فتنة حزيران الكبرى.