د. عبد الوهاب الأفندي- العربي الجديد-
ربما لأول وهلة تبدو المقارنة بين السعودية والسودان مستغربة، فإحدى الدولتين غنية، منسجمة عرقياً وثقافياً إلى حد كبير، ومستقرّة سياسياً ومدعومة دولياً، ولها نفوذ إقليمي، وحتى دولي، مقدّر. أما الثانية، فهي دولة فقيرة، ذات تنوع اجتماعي ملموس، تعاني من حروبٍ واضطرابات داخلية، ومن إدارة سياسية غير ناجحة، وقدر من العزلة الدولية، إضافة إلى خطر مزيد من التمزيق.
ولكن قليلاً من التدقيق يكشف التماثل، بل التطابق، في شكل الأزمة السياسية التي يواجهها البلدان. فكلاهما يواجه ماضيه الديني، ويواجه حلفاءه السابقين بوصفهم خصوما، بعد أن كان استخدم الشرعية الدينية لتعزيز موقعه، ضد خصومه في الداخل، وضد منافسيه الإقليميين. وبينما تساقطت الملكيات العربية الليبرالية تحت هجمات قوى التحديث العلماني، رغم الدعم الغربي القوي لها، فإن بقاء الأنظمة الملكية في الخليج والأردن والمغرب يعود، إلى حد كبير، إلى اعتمادها الشرعية الدينية، وتحالفها مع القوى الإسلامية الصاعدة.
ولولا أن النظام السعودي خصوصا استعان بالرأسمال الرمزي للحركات الإسلامية التجديدية، لصد الحملات الأيديولوجية العلمانية، وبناء رصيد ثقافي منافس، لكان لحق بنظام الإمامة في اليمن ونظام الشاه في إيران. ولكن حكام اليوم في السعودية يرون في هذه التحالفات السابقة عبئاً يجب التخلص منه. في الحالين، يتجه النظام الأوتوقراطي الذي استند إلى تحالفاتٍ قبليةٍ، ورأي عام ديني في سابق عهده، يتجه اليوم إلى تكريس حكم الفرد على حساب التحالفات السابقة.
في الحالة السودانية، بدأ المسار الأوضح والأقصر مع انقلاب يونيو/ حزيران 1989، حين تم حل كل الأجهزة التنظيمية للجبهة الإسلامية القومية، آخر تجليات التنظيم الإخواني، واستبدالها بأجهزة استشارية، يشكلها أهل الحكم كما يشاءون. وفي وقت لاحق، وقع صدام بين القيادة "الإسلامية"، ممثلة في الشيخ حسن الترابي، ونظام الحكم ممثلاً في الرئيس عمر البشير ونائبه على عثمان، وتم إقصاء الأول، وتشكيل تنظيم سمي الحركة الإسلامية، تهيمن عليه السلطة.
في وقت لاحق، أقصى الرئيس البشير من بقي من قيادات الحركة في السلطة، وفي مقدمتهم نائبه علي عثمان، ونائبه في قيادة الحزب الحاكم، نافع على نافع، معتمداً على الجيش حصراً باعتباره سندا للحكم، ويتشكّك في كل أطياف الحركة الإسلامية. ولكنه، في وقت لاحق، ترك الاعتماد على الجيش، وأصبح يستند إلى مليشيا قبلية، وأجهزة الأمن، وتحالفاتٍ دولية مع دول خليجية.
في السعودية كذلك، جرت محاولات مستمرة لتدجين مرتكزي الشرعية: العائلة الحاكمة والمؤسسة الدينية. وعندما وقع الشقاق داخل العائلة في الستينات، قويت شوكة المؤسسة الدينية التي دعمت الملك فيصل. وفي عهد الملك فهد الذي بدأ عملياً مع مقتل الملك فيصل في العام 1975، جرت محاولات لتحجيم المؤسسة الدينية والعائلة معاً. وكان من الدوافع الثورة الإيرانية عام 1979، ثم حادثة الحرم المكي والغزو الروسي لأفغانستان في العام نفسه.
وجاءت الحرب العراقية- الإيرانية في العام التالي، ثم غزو العراق الكويت عام 1990، والموقف السلبي للحركات الإسلامية من التحالف الخليجي- الأميركي. ذلك أن هذه التطورات أحدثت تحدياتٍ داخلية مزدوجة، تمثلت في مطالبة الليبراليين بالإصلاح السياسي وتوسيع حقوق المرأة، والإسلاميين بنظام إسلامي أكثر صرامة.
نتيجة لهذا كله، جرى تحجيم المؤسسة الدينية عبر إنشاء هيئة كبار العلماء التابعة للدولة، وتحجيم العائلة المالكة عبر النظام الأساسي الذي أعلن عام 1994، وكرس كل السلطات، بما فيها سلطة تعيين ولي العهد، في يد الملك.
وما يحدث اليوم في السعودية ينقل هذه الخطوات إلى مرحلةٍ أعلى، عبر تجاهلٍ شبه كامل للعائلة المالكة، ومعها نظام البيعة الذي سنه الملك عبدالله عام 2006. وخلال فترة حكم سلمان القصيرة، تم تغيير ولاية العهد مرتين، وتعديل النظام الأساسي (ظل مجمداً على كل حال) بدون الرجوع إلى العائلة. أما المؤسسة الدينية، فهناك توجيه شبه معلن لعلمنة المملكة، بل وتعهد معلن للأميركان بمحاربة الوهابية، المذهب الرسمي للمملكة.
في السودان يواجه النظام أعداء يتمثلون في الحركات المسلحة والمعارضة العلمانية، والقوى الإقليمية والدولية الداعمة لها، ومنها بعض "حلفاء" السودان، مثل مصر والإمارات. وفي السعودية، هناك إيران وحلفاؤها في اليمن، والمعارضة الشيعية في الداخل، وتيارات ليبرالية وعلمانية كثيرة راغبة في التحديث، ومعها بعض القوى الإسلامية المتشددة.
لكن في الحالين، ضرب النظام كل مصادر القوة التي كانت تدعمه في الداخل، تاركاً نفسه عارياً أمام أعداء الداخل والخارج. في السودان، استعدى النظام الإسلاميين والجيش ومعظم القوى المدنية، وكبرى أحزاب الشمال، وحتى المليشيات التي كانت تدعمه في دارفور، مثل مليشيا الشيخ موسى هلال. وفي السعودية، تم تهميش العائلة المالكة وقمع المؤسسة الدينية، وإعلان الحرب على "الوهابية"، واستهداف الإسلاميين والليبراليين معاً، وإعلان المواجهة مع إيران، ثم أخيراً قطر.
في الحالين، سخر النظام معظم موارده لتعزيز حكم الفرد، وضرب المؤسسات والقوى التي كانت تمثل سنده التقليدي، تاركاً نفسه مكشوفاً أمام الأعداء. فمع العملية "الاستشهادية" التي نفذتها السعودية بتفجير مجلس التعاون الخليجي من الداخل، زادت قوة إيران، بحيث إنها تستطيع الآن بسهولةٍ التدخل بصورة مكشوفة في اليمن، وربما في البحرين، من دون أن تستطيع السعودية عمل شيء.
هناك إدراك لهذا الضعف، كما نرى من تودّد الإمارات والسعودية (إن لم نقل تذللهما) لإيران عبر البوابة العراقية، في محاولةٍ مفضوحةٍ لتدارك فشل محاولة ضرب قطر (بدعوى ممالأتها إيران!). بالقدر نفسه، يتودّد السودان لأعدائه التقليديين في مصر والإمارات بثمن باهظ، تمثل في إرسال أبناء السودان ليموتوا في محرقة اليمن، بدلاً من جنود الدول التي شنت الحرب.
نحن، إذن، أمام مشهد بلدين عربيين كبيرين، يقفان على حافة الهاوية، بسبب سياساتٍ هدفت إلى تثبيت حكم الفرد، والتهرّب من استحقاقات المواطنة لشعوبهما. وهي سياسات تختلق أعداء كثيرين، وتحارب الأولياء، وتضعف منظومة التضامن الإقليمي لصالح هيمنة دولةٍ واحدة، وتضعف الدولة لحساب العائلة، والعائلة لحساب الفرد. ثم ترهن الفرد والدولة والمجتمع لحساب حماةٍ من الخارج، لا بد أن يتحولوا بدورهم إلى عدو مبين.
من الحكمة، إن بقي مكان لها، التراجع عن الهاوية قبل فوات الأوان، والمصالحة مع المواطن أولاً، وتوجيه إمكانات الدولة لخدمة المواطن، وتمكينه وحفظ كرامته، واستمالته لدعم شرعية الدولة، بدلاً من تبذيرها في مشاريع للقمع. من هنا، يمكن التحرك لتعزيز التضامن الإقليمي، لأن من نشر العدل في بلده لا يخاف الصوت الحر من داخله أو خارجه، ولا يحتاج للاحتماء بعدوه من شعبه وجيرانه، أو يطلب العيش في الظلام بعيداً من أعين الرقباء. والبديل عن الحكمة معروف. اسألوا ملوك الطوائف، ومن سار على دربهم.