يوسف حسني - الخليج أونلاين-
تبدو احتمالات استمرار منظومة مجلس التعاون الخليجي أقل بكثير من احتمالات تصدّعها، إن لم يكن انهيارها، في ظل تصاعد وتيرة الخلاف الذي بدأ عندما قطعت ثلاث دول خليجية ومصر علاقاتها مع دولة قطر وفرضت عليها حصاراً خانقاً، قبل أكثر من أربعة أشهر.
غير أن التعاون الخليجي وإن ظلّ باقياً في وجه عاصفة الخلاف، فإنه لا ينفي حقيقة أن حلم الخليجيين بالاتحاد قد بات في مهبّ الريح، إن لم يكن قد اقتُلع من جذوره، كما يقول البعض.
ورغم محاولات لمّ الشمل وتقريب الخلاف بين الفرقاء، فإن التصعيد السياسي والإعلامي، الذي تمارسه دول حصار قطر، يجعل سحابة كبيرة من اللايقين تخيّم على مستقبل منطقة كانت قبل أقل من عام تتحدث عن نيّتها إصدار عملة موحدة في اتحاد خليجي، أسوة بـ"إخوة اليورو"، في حين أنها اليوم واقفة على شفير التفكك، في ظل اتهام دول دولاً أخرى بالسعي لتغيير نظام الحكم فيها.
ويعزز تلك الآراء ما كشفه وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، حين قال الثلاثاء 17 أكتوبر 2017، إن السعودية ترغب في زعزعة استقرار قطر، وتفكّر في تغيير النظام، "وأشياء أخرى".
ومن اللافت أن الهاجس الأمني كان هو الباعث الرئيس تقريباً على تبنِّي فكرة الاتحاد، التي لاقت قبولاً مبدئياً بين ساسة الخليج قبل الأزمة، وقد تَعزز هذا الهاجس لاحقاً بفعل عوامل وعناصر عديدة؛ كالعامل الاقتصادي، والتعليمي، والصحي، والتنموي، خاصةً أن الخليجيين يتربعون على أحد أكبر التكتلات الاقتصادية العالمية، بما يتجاوز 1.6 تريليون دولار.
- تناقض يشتت المنطقة
وكانت نشأة الاتحاد ستحمل، في حال أصبح واقعاً، رؤىً واستراتيجيات تزيد من قدرة وقوة دوله، وتعزّز قيامها بدور إقليمي وعالمي يدفع نحو بسط النفوذ في العالَمين العربي والإسلامي، على قاعدة الاستقلالية واحترام سيادة الدول.
اللافت أن الحديث عن فكرة الاتحاد الخليجي بدأ من تصريح لرئيس الوزراء البحريني، الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، وذلك في تصريح مقتضب عقب الاجتماع الوزاري التحضيري لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في دورته الـ141، في المنامة، العام الماضي، وقال: "علينا كمنظومة خليجية، أن نحافظ دائماً على مصالحنا، وأول ما يحقق هذه المصالح هو الاتحاد الخليجي"، قبل أن تتحول بلاده لأحد أطراف النزاع المفاجئ بالخليج.
في حين قال وزير الخارجية البحريني، الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة، إن ملف الاتحاد الخليجي سيكون حاضراً على جدول أعمال قمة مجلس التعاون الخليجي الـ38 بالبحرين، وهو الأمر الذي لم تحسمه القمة بعدها.
وتحديداً في ديسمبر 2016، كان عضو مجلس النواب البحريني عبد الحميد النجار قد أكد لـ"الخليج أونلاين"، أن مجلس التعاون الخليجي ورغم تحقيقه نتائج عديدة خلال أكثر من 30 عاماً، فإنه "ليس الهدف النهائي، إنما المطلوب وما نطمح إليه في المرحلة المقبلة، هو الاتحاد الخليجي".
وأضاف في حديث لـ"الخليج أونلاين": "نحن الآن نواجه مشاكل عدة، هناك دول تستهدف دول الخليج، وإذا كنا في اتحاد كونفدرالي، عسكري، اقتصادي، فسيكون هناك قوة تعيد حسابات أي قوة أخرى تحاول مواجهة الخليج، بخلاف ما يحصل إذا بقينا بتعاون خليجي فقط".
وأوضح أن "مطلب الاتحاد قديم، فقد واجهتنا عدة مشاكل سابقة، فارتأينا أن يكون الاتحاد من أفضل الحلول".
وقبل أقل من شهر من اندلاع الأزمة الأخيرة، دعت رئيسة لجنة الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الوطني في مجلس النواب البحريني، سوسن تقوي، لتطبيق الاتحاد الكونفدرالي بين دول مجلس التعاون الخليجي رغم تحفُّظ بعض دول المجلس عليه.
كما كانت دعوة العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، للانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد الخليجي، تلقى تقبُّلاً خليجياً، واعتبرته "تقوي"، في حديث بثّه التلفزيون البحريني الرسمي مايو الماضي، أنه لِدفع العمل الخليجي المشترك نحو آفاق جديدة قادرة على مواجهة التحديات التي فرضتها المستجدات الداخلية والخارجية، وفي مقدمتها التحديات الأمنية.
وأكدت أن هناك اتفاقاً رسمياً وشعبياً في البحرين على أهمية خطوة الانتقال نحو الاتحاد الخليجي، مضيفة: "منذ أن أطلق العاهل السعودي هذه الدعوة، كانت مملكة البحرين، قيادةً وحكومةً وشعباً، في مقدمة الداعمين لهذه الدعوة والساعين إلى تحقيقها".
السعودية كانت قد تبنّت منذ عام 2011، تحت وطأة التمدد الإيراني في المنطقة، الدعوة لتكوين "الاتحاد الخليجي"، خاصةً بعد تطور الموقف في البحرين بشكل واضح، وتدخُّل درع الجزيرة لإحكام الأمن، بالإضافة إلى المتغيرات الجارية في المنطقة العربية.
وسعت الرياض، منذ اللحظة الأولى، إلى ترسيخ معانٍ واضحة لتعزيز فكرة "الاتحاد الخليجي"؛ أهمها يتمثل في تكوين صورة واحدة وواضحة للمنطقة الخليجية تحمل هوية واحدة، بقيادة مركزية واحدة.
أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، الذي سارع لتبنّي وساطة كبرى لحل الأزمة الحالية منذ اندلاعها، ما يزال متمسكاً بالأمل رغم إخفاقه في جمع أشقائه على طاولة حوار واحدة.
وإن كان الحديث عن حلّ الخلاف ما زال محض أمنيات، فإن الحديث عن وحدة الخليج العربي يعتبر درباً من دروب المستحيلات، وفي الوقت الراهن على الأقل، لا سيما أن العلاقات بين الدول تُدار وفق رغبة القادة وليس وفق ما تريده الشعوب، أو تفرضه المصلحة العامة، بحسب المحلل السياسي اليمني الدكتور نبيل البكيري.
البكيري قال لـ"الخليج أونلاين"، إن الواقع يؤكد أن الحكام يتغيرون وتتقلّب مواقفهم من قضايا هامة ومصيرية بتقلّب أمزجتهم؛ ومن ثم فإن الدعائم الأساسية للاتحاد محل الحديث، والمتمثلة في سيادة القانون واحترام سيادة الآخرين، يبدو أنها غير متوافرة.
بل إن مجلس التعاون الخليجي، الذي هو النواة الأولى للاتحاد، أصبح في حكم المعطّل والمجمّد سياسياً، وربما إذا لم تُعقد قمة الكويت المرتقبة في وقتها وبحضور جميع أعضاء المجلس، فسيكون هذا مؤشراً واضحاً على احتضار المجلس وموته، وفق البكيري.
وأضاف البكيري: "كل المؤشرات تقول إن المجلس وصل لمرحلة العجز وأصبح وجوده ترفاً سياسياً؛ إذ لم يُشهد له أي عمل نوعي موحّد منذ إعلانه بداية ثمانينيات القرن الماضي".
وكان الدكتور عبد الله النفيسي، أستاذ العلوم السياسية في الكويت، غرّد سابقاً بعدة تغريدات، في محاولة لإحياء دعوة العاهل السعودي الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز، حيث طالب بتنظيم استفتاء شعبي بدول مجلس التعاون الخليجي على خيار "الاتحاد الكونفدرالي"، خاصةً أن التهديدات الإيرانية لمنطقة الخليج زادت من حدتها، والتي بدأت في الثمانينيات، حتى تغلغلت في العراق وسوريا واليمن.
ورغم دعوة النفيسي لتكوين اتحاد خليجي كونفدرالي، فإن الأهم هو الانطلاق نحو الاتحاد، بصرف النظر عن التسميات، والسعي للوصول إلى توحُّد وتنسيق في القرارات والرؤى؛ من خلال عقد اتفاقيات ومعاهدات تدفع نحو مزيد من التعاون، وهو ما يعزز رغبة الجميع في التعاون والعمل، دون الخضوع لفكرة الاتحاد الكونفدرالي، ويُترك الأمر على السعة، لتنضم الدولة التي تريد، وتؤجل انضمامها دول أخرى، طالما يجمعهم تعاون واتفاقيات على أعلى مستوى، حسبما يشير مراقبون.
- ميزات الاتحاد المستحيلة
حلم الاتحاد، حال تحققه، كان سيمنح دوله ميزات كثيرة؛ أهمها: مواجهة الأطماع الخارجية، وتعزيز مكانة دول التعاون إقليمياً وعالمياً، فضلاً عن الحد من الأخطار الداخلية، وهو ما يدفع نحو تعزيز الاستقرار، ويخلق كذلك كياناً سياسياً واقتصادياً يتناسب مع متطلبات وإمكانات المنطقة، والتغلب على مشكلة العمالة الوافدة التي باتت تشكل تهديداً ديموغرافياً حقيقياً.
وحتى القمة الخليجية الماضية التي احتضنتها المنامة في ديسمبر 2016، كان بعض سكان الخليج يتطلعون إلى إقرار عملة موحدة، ثم الانتقال إلى خطوة أبعد تتمثّل بفك الارتباط الخليجي بالدولار؛ للتأثير في إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، الذي طالب الخليجيين مؤخراً بدفع الأموال مقابل "الحماية".
وقبل قمةٍ يُفترض أن تُعقد في الكويت مطلع ديسمبر المقبل، زار أمير الكويت الرياض والتقى العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز؛ في محاولة جليّة لحلحلة الأزمة، وربما لعقد القمة التي لم يُحسم أمرها حتى اللحظة، الأمر الذي يعني أن غاية أُمنيات الخليجيين حالياً هي عقد قمّة لقادتهم، وليس أكثر من ذلك.
- تباعد واضح
وبالنظر إلى موقف الدول الست الخليجية من الوضع الراهن، نجد أن ثمّة نيّة لدى البعض في محاصرة الخلاف، في حين تتجلّى رغبة البعض الآخر في محاصرة الجيران. وبين هذا المعسكر وذاك، لا يجد حلم الوحدة من يدعمه في وجه عاصفة الخلاف الأشد؛ بل ويمكن القول إنه لا يجد حتى من يفكر فيه مجرد تفكير.
العلاقات الخليجية-الخليجية حالياً، تبدو كجبل جليدي، ما يخفى منه أكثر مما يظهر، وإن كانت دولة قطر تبدو واثقة بموقفها، واعيةً لطبيعة اللحظة التاريخية مُدركةً لتعقيداتها، عالمةً بجذورها ومحيطةً بأسبابها، مرحّبةً بمحاولات حلّها، فإنها لا تبدو مستعدة لمحو هذه الصفحة السوداء من ذاكرتها ولو في المدى القصير، على أقل تقدير.
دول الحصار أيضاً، لم تُظهر أي نيّة لوضع نهاية للأزمة التي بدأتها وأمعنت فيها وما تزال حريصة على استمرارها؛ ومن ثم لا يمكن القول إن هذه الدول العازمة على استمرار محاصرة جارتها، ستتجاوز رغبتها في خنق قطر لتبحث عن وحدة منطقة تُعتبر قطر واحدة من أهم دولها على أكثر من صعيد.
وفي حين تحثّ قطر الخُطا لتخفيف وطأة الحصار وخلق خرائط جديدة يمكنها التحرك من خلالها على الأصعدة كافة، ما يزال إعلام دول الحصار متمسكاً بحديثه عن انهيار النظام القطري واقتراب تهاويه أمام ضربات دول الحصار؛ الأمر الذي يدفع الدوحة للبحث عن أشقاء آخرين لتتحد معهم وتُوجِد لنفسها ولشعبها من خلالهم منافذ ومعابر ودعماً في وجه مستقبل ملبَّد بالشكوك.
وإن كانت تقارير دولية ومحلية تؤكد أن الحصار قد فشل، وأن الأزمة قد ماتت عملياً، فإن واقع منطقة الخليج يعزز مخاوف كثيرين من أن تكون عروة الخليجيين قد انفصمت وأن يكون عقدهم قد انفرط، وأن تكون كل محاولات رأب الصدع ليست إلا حرثاً في بحر أو مضيعةً لوقت أو تسويقاً لواقع غير موجود عن الوحدة والتعاون، وما إلى ذلك من المصطلحات الدبلوماسية التي لم تعد قادرة على محو هذا الواقع.
- موت إكلينيكي
هذه الأزمة التي يراها البعض نهاية لكل أحاديث الوحدة الخليجية، أعادت للأذهان مجدداً مشهد اجتياح القوات العراقية جارتها الكويت في الساعات الأولى من 2 أغسطس 1990. وإن كان الفارق في طبيعة الاجتياح، فإن الآثار النفسية والجراح تبدو متشابهة إلى حد كبير، بما يجعل الحديث عن امتداد آثار هذا الزلزال وفداحة خسائره أمراً لا يمكن تجاهله.
وحالياً، فإن ثمة من يرى أنه حتى مجلس التعاون قد انتهى عملياً بعدما فقدَ دوره وأصبح في حالة موت سريري وإن ظل باقياً وعُقدت من خلاله القمم وأقيمت باسمه المؤتمرات وخرجت بلسانه البيانات. وإذا كان مجلس التعاون قد انتهى، فإن حلم الوحدة قد انتهى هو الآخر، ولو في اللحظة الراهنة.