مهنا الحبيل- الوطن القطرية-
تزامن إصدار السلطات السعودية قرار الإغلاق النهائي لمنفذ سلوى الحدودي، مع احتفالات اليوم الوطني القطري، التي اتخذت بعدًا جديدًا كليًا هذا العام، ودشنت مشاريع باسم «5 يونيو» وهو يوم قرار فرض الحصار المفاجئ، من دول المحور على قطر في رمضان الماضي.
وليس بالضرورة أن يكون تزامن الحدثين، ذا صلة مخططة من جانب الرياض، فرسائل الدوحة كانت واضحة بعد رفض المحور للوساطة الكويتية، وهي أن قطر منفتحة بلا شروط على الحوار ومناقشة الخلافات، عبر آلية احترام السيادة، لا الإذعان الذي طلبته دول المحور، وذات الموقف مستمر إلى اليوم.
لكن حراك الدولة وسياساتها، أضحى يتجه إلى تدشين مرحلة استراتيجية انتقالية، تنفصل بها كليًا عن ضغوط وتأثيرات دول المحور، خاصة أنها اليوم قد عبرت المأزق الحرج، رغم كل التهديدات الإعلامية وحملاتها المتعددة!
فالموقف الدولي والإقليمي، وتقديرات دول المحور بعد التطورات الكبرى، تدرك أن البعد العسكري، الذي وثّق نواياه الشيخ «صباح»، رسميًا في واشنطن قد حُيّد كليًا.
وكلما عبر الزمن أنتج صعوبات بالغة، للمشروع الذي أذن له «ترامب»، لمصالح لا حاجة لنا لتكرارها، وأصبحت الدوحة تقف على تصور واضح في خطوطه العامة، يرى من الضرورة الأساسية، حتى لو فُككت الأزمة الخليجية أن تباشر قطر، صناعة تموضع مختلف، يجنبها عن أي تكرار لمثل هذه الأزمة.
ورغم حتمية الجغرافيا، فإن انتقال سياسات وعلاقات الدول، كان ولا يزال سائدا، رغم الحدود الجغرافية الأحادية، سواءً في ساحل الخليج العربي، منذ 1504 للميلاد، على ضفتيه، أو كان خارج الوطن العربي في نماذج شبيهة.
وأمامنا هنا مسألتان مهمتان، وإن كنّا لا نعرف إن كانت هناك مساحة مراجعة في الرياض، مختلفة عن صوت الملاعنات والمناكفات الشرسة، التي خسرت بها السعودية كثيرًا، ممكن أن تلتقط هذه الأفكار.
المسألة الأولى:
أن الحصار الاجتماعي للناس، الذي يُعّد من أشرس الحالات في تاريخ الخليج العربي، لن يُغيّر مطلقًا توجهات الدوحة.
وإنما يسعر العصف الوجداني والاجتماعي المؤلم، ويعصر ضمائر الشعوب ليس في قطر، وحسب، بل في كل ساحل الخليج، ومنه الواقع تحت الحكم السعودي في المنطقة الشرقية بادية وحاضرة، وهو ما ينحت في صدور الطفولة والشباب والعجائز، الذين قُطعوا دون أفراح ذويهم وأتراحهم، فضلًا عن الأرحام الكبرى كالوالدين والأزواج، والأطفال المشتركة.
والقول إن هناك استثناءات تقدم لذوي الأرحام معروف، لكنها معقدة، ولا تحقق معالجة لآلام الناس، ولا تخفف من لأواء القرار، على الشعوب، والرياض تخسر كثيرًا، فضلًا عن دعوة الشرع وأخلاق العرب، التي تترفّع عن مثل هذه القطيعة.
وكما أكدنا سابقًا، أن الدوحة اليوم عاشت في معركة وجود، بناء على نوايا اعترف بها الإعلام الرسمي للمحور، وبالتالي فلن يُغيّر منها هذا الموقف مطلقًا، فالدول دون وجودها وحدودها، تتحمل كل شيء.
فلماذا يُحبس الناس دون أرحامهم إذن، ولماذا لا ترفع المملكة الحصار الحدودي، وبالتالي سيفعله الآخرون ويسقط الحصار الاجتماعي للشعوب، وتبقى صراعات الساسة قائمة، فهذا الاستعداء للضمير الاجتماعي الموحد في الخليج، يخلق ذاكرة لا تمحوها الأيام، خاصة وهي تُربط اليوم بعهد العرش الجديد في الرياض.
أما المسألة الثانية:
وهنا نتحدث عنها بنقاش مباشر صريح، فلقد تواصل معي صديق قديم مرموق، قريب لفريق صناعة الفكر السياسي السعودي الرسمي، عند بدء الأزمة، وكرر أن المراهنة على مشروع انقسام الأسرة الأميرية، تفكير جاد في الرياض، وليس دعائيا.
فقلت له: هذا وهم، وأجيبك برأي المراقب اللصيق لا العاطفة، لا يوجد ما يمكن أن يسمى انقسام، وإن وجد خلاف، والأسرة الأميرية متضامنة بقوة، مع الشيخ «تميم» وبإرادة واضحة، قد تكون الأقوى في تاريخ تأسيس الإمارة، فلا يوجد قهر سياسي قائم مطلقا بينهم، هذه خديعة تستنزف بها أبوظبي الرياض.
ونحن اليوم نكتب في نهاية 2017، فأين هذا الرهان رغم كل الدعايات والملاعنات والهجوم على الأعراض الذي قادته أبوظبي، وتشددت فيه مواقع إعلامية سعودية.. هل هناك أسرة حاكمة، يرشح البديل لها، من يطعن في أعراض عفيفاتها؟
أين هذا الانقسام الذي يراوح مع شخصيات، لها ظروفها المختلفة قديما، ويُكرّر عرضها في الإعلام دون أي نجاح لاستقطابها في الداخل، أليس على الرياض أن تعيد التفكير في هذا الرهان الذي يستنزفها؟
هل تدرك الرياض الجديدة معنى هذه الخسائر المضاعفة، التي يراقبها المواطن الخليجي، في كل الدول حتى دول الحصار، ماذا لو اختلفنا غدًا مع الرياض، ماذا ستصنع بنا؟ خاصة بعد الحملات الإعلامية الشرسة ضد الكويت، والمناوشات مع عمان.
إن من أبجديات المراجعة السياسية والدبلوماسية، خاصة بعد مأزق حرب اليمن، وقضية الرئيس «الحريري» التي لم تنشر تفصيلاتها حتى اليوم، أن يُسند أي ملف متعثر، إلى من يملك عمق القراءة الدبلوماسية والسياسية، لا برامج التحريض المجنونة، فيقدم خلاصته للدولة:
لماذا نحاصر قطر؟ ماذا كان الهدف؟ وأين منه نحن اليوم؟ وأين اتجهت قطر في البحث عن بدائل استراتيجية بعد مباغتتها بالحصار؟
وما موقف شعبها الذي يترسخ في وجدانه اليوم، عن السعودية الجديدة، بعد كل الود الاجتماعي، والمشترك المذهبي منذ أن تخلى الإمام المؤسس الشيخ «قاسم» عن مذهب سنة الخليج مدرسة الإمام مالك، إلى الدعوة السلفية السعودية؟
ما مشاعر هذا الشعب اليوم، الذي كان يعتبر السعودية حضنه الاجتماعي؟
وحتّى لو ألغيت مشاعر الشعب القطري من هذا الجرد، وذهب المستشار الجديد العاقل، المكلف ببحث حصيلة القرار على مصالح الرياض، فما الذي حققته السعودية أمام تقدم إيران؟
وما الذي خسرته مع الشعوب العربية؟
خاصة أمام اللغة العلنية، التي شتُم بها الشعب القطري، واستهدف أميره مركزيًا، بلغة يصعب أن نصفها، دون القبح والوقاحة، أخذًا بالاعتبار أن بعض الرد القطري، الذي خالف توجيه الأمير جاء لاحقًا بزمن، بعد هذه الحملة العنيفة، وهذا موثق أمام المراقب.
وإذا تركنا الأخلاق جانبًا، ولا يرشدُ الناس إلّا بأخلاقهم، فكم هي الخسائر، إذا قدر لهذه الأزمة أن تنصرم؟
وما الذي خلقته اليوم، من أسئلة المترصد الاستراتيجي، على المستقبل الوجودي السعودي نفسه، أو علاقاته الداخلية الدينية والقبيلة والمناطقية؟
وهل الخلاف مع قطر، وفرص كسب أي ملف بالحوار معها، أو تنظيم الخلاف سيأتي بهذه الخسائر، التي تواجهها الدولة السعودية بعد الحصار؟
إنها أسئلة مركزية طبيعية لكل صانع قرار: ماذا صنع استدراج أبوظبي للسعودية، سواءً ضد قطر أو ضد الإسلاميين والحركة الإصلاحية الدستورية داخلها؟
ولنقل من النهاية، إن هناك تطابقات بين الرياض الجديدة وبين أبوظبي، ومشروعها الإقليمي الدولي، هل ما جرى كفل للسعودية التقدم؟
وهل اتحاد العاصمتين، ضد ملفات عديدة في الخليج أو الإسلاميين السُنة أو تركيا العدالة، مضطر أن يخوض هذا الوضع الذي هدم مجلس التعاون وفكك شعوبه؟
ألم يكن من وسائط الصراع مع قطر والربيع العربي، ما يُمكن أن تستوعبه سياسات الدول، دون أن تضرب في جذورها الوجودية؟
أسئلة كبرى نتركها، أمام منصة القرار السعودية والرأي العام، وسنطرح بعون الله في المقال القادم قراءة استشرافية، لخطوط المرحلة الاستراتيجية الانتقالية للدوحة.