محمد سليمان- معهد واشنطن-
مع بدء جلسات المحكمة الدولية بشأن الادعاءات القطرية حول الاجراءات التي اتخذتها دولة الإمارات العربية المتحدة خلال أزمة الخليج، يجدر النظر إلى العوامل المحفزة لهذا الحدث، فضلاً عن البدائل المحتملة لتسوية النزاع. على الرغم من العلاقات الجيدة نسبيًا لإدارة ترامب مع جميع الأطراف، لعبت هذه الإدارة حتى الآن دورًا متناقضًا في الصراع الإقليمي. فمن أجل إنهاء هذا النزاع، يجب على واشنطن العمل على احتواء أزمة الخليج وتسويتها. فإذا ما تُرك الصراع ليتفاقم، سيؤدي إلى تقويض الجهود الاستراتيجية الأمريكية الأوسع لاحتواء إيران – إذ لا تستطيع الولايات المتحدة التصدي بفعالية للتهديد الإيراني من دون ضمان أن يتوفر لدى واشنطن قاعدة حليفة موحدة في المنطقة.
فإنّ الصراع بين المعسكرين، الذي بدأ في فترة الربيع العربي في عام ٢٠١١، قد بلغ ذروته في حزيران/يونيو ٢٠١٧، عندما قطعت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر كل علاقاتها مع قطر ردًا على ما وصفته اللجنة الرباعية بدعم الإرهاب والأهداف السياسة الخارجية التي تختلف عن مصلحة الرباعية. وقد سحبت هذه البلدان الأربعة سفراءها من الدوحة وفرضت حظرًا على التجارة والسفر، وطالبت بأن تمتثل قطر لـ ١٣ مطلبًا تحدده اللجنة الرباعية من أجل رفع العقوبات. لكن قطر قاومت تلك الضغوطات ، وها هي الآن تتصدى لممارسات العزلة التي تفرضها دول المقاطعة، والتي مضى عليها أكثر من عام، من خلال اللجوء الدولي. ونتيجة لذلك، ستعقد محكمة العدل الدولية، من ٢٧ إلى ٢٩ حزيران/يونيو، جلسات استماع علنية حول ادعاء قطر بأن الإمارات مسؤولة عن إجراءات تمس بحقوق الإنسان للمواطنين القطريين الساكنين في الإمارات.
وفي الوقت نفسه، استضاف الرئيس ترامب ملكين خليجيين قد طلبا من البيت الأبيض دعم الجانب الخاص لكل منهما – وهما جانبان متنازعان – فيما يخص الأزمة الحالية. وفي أول زيارة له في ١٩ آذار/مارس، وافق ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس ترامب على صفقة أسلحة بمليارات الدولارات كان ترامب قد وصفها بأنها ستجلب الاستثمارات والوظائف الجديدة إلى الولايات المتحدة، وهي رسالة تتوافق مع قاعدة ترامب الانتخابية. واحتذاءً بالنهج السعودي في التعامل مع الرئيس ترامب، زار أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني البيت الأبيض في الشهر التالي وأكّد أن الشراكة الاقتصادية بين قطر والولايات المتحدة تقدّر بـ "أكثر من ١٢٥ مليار دولار"، وأنه يخطط "لمضاعفة هذا الرقم في المستقبل القريب". وتؤكّد هاتان الزيارتان على أن واشنطن لا تزال تسيطر على كلا الطرفين، كما وتسلّطا الضوء على العلاقات الاقتصادية العميقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر.
ولكن تقييم الإدارة الواضح، الذي يبيّن أن أزمة الخليج هي فرصة سانحة تستفيد منها الصناعات العسكرية الأمريكية، والذي هو انعكاس لسياسة الإدارة "أمريكا أولاً''، يشكّل نهجًا تجاه الوضع الذي يعطي الأولوية للأهداف المحلية على أهداف السياسة الخارجية المعلنة للإدارة الأمريكية. ويبدو أن واشنطن قد أغفلت أهمية أزمة الخليج في الإطار الأوسع لتحدي إيران، حيث عززت هذه الأخيرة موقفها في مناطق رئيسية مثل سوريا، في حين بدأت دول الخليج الاقتتال فيما بينها.
ومع تدهور علاقاتها مع الدول العربية الأخرى، أدت عزلة قطر إلى تشجيع إيران على المضي قدماً وإقامة علاقات أقوى مع الدوحة. وبعد عدة أشهر من بدء الأزمة، أعادت الدوحة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع طهران للحد من أثر الحظر الذي تفرضه السعودية. وفي المقابل، أدى التقارب بين الدوحة وطهران إلى إضعاف مجلس التعاون الخليجي. وعلى الرغم من أن قطر وإيران لا تؤيدان بالضرورة الرؤية الاستراتيجية الطويلة الأجل ذاتها، إلا أنهما تتفقان حاليًا على الفوائد التكتيكية القصيرة الأجل لتحالفهما ضد دول الخليج الأخرى. وفي هذا السياق، فإن الزيارة التي قام بها الأمير القطري لاحقًا إلى الولايات المتحدة تدل على أن هذا اللجوء إلى إيران يمكن الرجوع عنه، كما وتعكس حقيقة أن قطر تحتاج إلى تلقي الدعم من أي جهة كانت، وبما أن الواردات الغذائية الإيرانية هي التي تساند حاليًا قطر إلى حد بعيد، فإن إيران هي من يلبي هذه الحاجة في الوقت الراهن.
وباعتبار إيران تحتل مكانًا مركزيًا في استراتيجية السياسة الخارجية للرئيس ترامب، فإن أزمة الخليج ليست مجرد قلق إقليمي وإنما أيضًا مسألة تؤثر مباشرة على المصالح الأمريكية. فلقد كانت جهود إدارة ترامب السابقة للتوسط في أزمة الخليج معقدة بسبب ميل ترامب منذ البداية نحو المحور السعودي الإماراتي، ما حد من فعالية مهمة المفاوضات الأولية التي كان يقودها وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون في المنطقة.
وفي الآونة الأخيرة، بدت الإدارة الأمريكية وكأنها تزيد من إقرارها بخطورة الأزمة وضرورة إشراك الطرفين؛ كما أرسل الرئيس ترامب وزير خارجيته الحالي، مايك بومبيو، إلى الخليج للتعبير عن المخاوف الأمريكية حيال أزمة الخليج. وعلّق بومبيو في تصريحات مشتركة مع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بأن "وحدة الخليج ضرورية ونحن بحاجة إلى تحقيقها". وشدد ترامب على نفس الرسالة مع الأمير تميم بن حمد القطري خلال مكالمة هاتفية يوم ١٤ حزيران/يونيو، مشيرًا إلى "أهمية وحدة الخليج للحد من التهديدات الأمنية الإقليمية وضمان الازدهار الاقتصادي في المنطقة". كما كان ترامب شديد اللهجة في اتصاله الهاتفي الأخير مع الملك السعودي، على الرغم من أن المكالمة الهاتفية وحدها لم تقنع القيادة السعودية بإنهاء الأزمة المريرة بينها وبين قطر. فهذه الخطوات، في حين أنها واعدة، غير أنها تشير إلى ضرورة بذل المزيد من الجهود.
وإلى جانب الدبلوماسية في المنطقة وتلك التي تُجرى عبر الهاتف، ينبغي على إدارة ترامب أن تفرض مزيدًا من الضغوطات على قادة دول الخليج لحضور قمة على غرار كامب ديفيد، حيث يجتمع القادة معًا - شخصيًا - من أجل الالتزام في المضي قدمًا نحو المصالحة. ويمكن لترامب الاستفادة من اعتماد دول الخليج على دور الولايات المتحدة كضامن رئيسي للأمن الإقليمي للتوسط في مثل هذا النوع من الاجتماعات بين المنافسين الحاليين.
وبهدف تمهيد الطريق لمثل هذه القمة، يجب على الإدارة توجيه عملية ملموسة لوقف التصعيد بين دول الخليج المتخاصمة. على وجه الخصوص، يجب معالجة مسألة الطائرات الحربية الخليجية التي تضايق الطائرات المدنية وانتهاكات السيادة الإقليمية - مثل الحادثة التي وقعت بين قطر والإمارات العربية المتحدة هذا العام. علاوة على ذلك، يجب الضغط على السعوديين لوقف الحرب الإعلامية. إذ نشرت وسائل الإعلام السعودية والغربية أنباء عن خطط المملكة لشقّ قناة على طول حدودها مع قطر لتحويل شبه الجزيرة القطرية إلى جزيرة، وهو عمل من شأنه أن يجعل عزلة قطر المجازية عزلة حقيقية. وتجدر الإشارة إلى أن استمرار هذه الأنواع من التهديدات، التي تمثل تهديدًا وجوديًا لدولة قطر، قد يؤدي إلى ترسيخ التنافس الخليجي بشكل يتعذر إصلاحه.
لا يزال بإمكان إدارة ترامب إعادة توجيه ديناميكيات الخليج لمواجهة التهديد الإيراني الوجودي المتزايد، لكن استمرار أزمة الخليج، التي تتفاقم باضطراد، سيعثّر بشكل كبير جهود الولايات المتحدة ودول الخليج الرامية إلى وقف وقوع اعتداءات إيرانية جديدة.