وكالات-
يوماً بعد يوم، يتأكد أن السعودية والإمارات أخطأتا في حساباتهما بخصوص منطقة الخليج ما بعد فرض المقاطعة على قطر. كان في ظنهما أن حملة منسّقة وضخمة من النوع الذي أطلقتاه في أيار/ مايو 2017، مصحوبةً بـ«فرمان» المطالب الـ13، ستبثّ الرعب في نفوس «المناكِفين والمتآمرين» (الدوحة) والمتمايِزين (الكويت ومسقط)، وستمنع الأخيرتين خصوصاً من مجرد التفكير في «التمرد». لكن ما أثبتته الوقائع عملياً أن «الحرب» السعودية - الإماراتية أسهمت بالدرجة الأولى في إبعاد سلطنة عُمان أكثر فأكثر عن «أشقائها»، وحفّزتها على تعزيز علاقاتها مع مناوئي الرياض وأبو ظبي بما يشكل درعاً واقية لها في مواجهة أي تطورات مستقبلية مضادة لمصالحها.
هذا ما تجليه بوضوح الوثائق المسربة من السفارة الإماراتية في مسقط، حيث يقول السفير محمد سلطان السويدي في واحدة منها مُعنونة بـ«توقيع (قطر للبترول) اتفاقية للتنقيب عن النفط قبالة سواحل عمان» (مؤرّخة بـ20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017) إن «مسقط تستعجل الاصطفاف مع الدوحة برغم إعلانها الحياد في الأزمة الخليجية»، معتبراً تلك الاتفاقية «دليلاً على ذلك». ويتحدث السويدي في الوثيقة نفسها عن «مستوى جديد ومتطور من العلاقات بين السلطنة ودولة قطر»، مبيّناً أن خطورة الاتفاقية المذكورة تكمن في أن «السلطنة تبدي تحفظات تجاه عمليات التنقيب النفطي في البحر»، ولذا تُعدّ هذه الصفقة «الانعكاس الأكثر وضوحاً لمدى التقارب العماني - القطري خلال الأشهر القليلة الماضية».
تقاربٌ ترِد في بقية الوثائق نماذج إضافية منه، كما يُعدّد القائم بالأعمال بالإنابة، خالد علي الطنيجي، في وثيقة مورّخة بـ12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 تحمل عنوان «زيارة وزير الخارجية القطري لسلطنة عمان». يقول الطنيجي، في الوثيقة المشار إليها، إن هناك «اتفاقاً وتنسيقاً عمانياً - قطرياً في شأن أزمة قطر، يقضي بإبداء مسقط موقفاً حيادياً في ظاهره، مقابل بعض التسهيلات والإسناد القطري لعدد من الملفات العمانية الأخرى سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي». ويضيف أن «التقارب العماني - القطري يبدو واضحاً من خلال ما يتم نشره عبر وسائل الإعلام العمانية الرسمية، حيث هناك ميل إعلامي واضح يتجلى من خلال الرؤى والتحليلات المنحازة للجانب القطري، والتي يتم التغاضي عنها من قبل الحكومة العمانية».
إزاء ذلك، لا يبدي الإماراتيون تفهماً للموقف العماني، على رغم أنهم يحرصون على ربطه دائماً بالأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها القطاعات الإنتاجية في السلطنة، إلا أنهم يضعون تلك الحاجة «الماسّة» كما يصفونها في إطار الأدوات التي يمكن استخدامها للضغط على مسقط. هنا، يطفو على السطح إصرار أبو ظبي على إدامة الأزمة الخليجية، ولا مبالاتها بالإبقاء على عُمان كقناة يمكن اللجوء إليها عندما تحين لحظة النزول عن الشجرة؛ إذ إن هذا الأمر يمكن «أن يتيح للدوحة مساحات جديدة لإعادة التموضع... ويشكل فرصة لها لالتقاط الأنفاس والخروج من أزمتها الحالية» مثلما يرى الطنيجي في الوثيقة الثانية المذكورة آنفاً. وانطلاقاً من تلك الرؤية، يبدأ الحديث عن خطط لإخضاع عُمان، في وقت لا تزال قطر قادرة على الوقوف، وهو ما يبيّن حجم النزق المتحكّم بسياسات ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، ومعه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
يتحدث الإماراتيون عن خطط لإخضاع عمان في وقت لا تزال قطر قادرة على الوقوف
يشدّد السفير السويدي، في وثيقة «التنقيب عن النفط» على أنه «لا بد لنا من تحرك باتجاه السلطنة لثنيها بالترغيب أو الترهيب». تحرك يبدو أنه قد بدأ فعلياً منذ فترة بقيادة الإمارات، التي لها سوابق تاريخية في استفزاز عُمان والتدخل في شؤونها. حاولت أبو ظبي الانقضاض على الظهير الجنوبي - الغربي للسلطنة في اليمن (محافظة المهرة) عن طريق شراء الولاءات وعمليات التجنيد و«الأعمال الإنسانية»، لكن الجهود الإماراتية لم تفلح في تحقيق الاختراق المطلوب، ما دعا السعودية إلى التدخل بنفسها تحت ستار «منع التهريب». وإلى اليوم، لا يزال الشد والجذب قائماً بين الرياض التي تحاول إحكام قبضتها على المهرة وبين أذرع النفوذ العمانية التي بدأت السلطنة بمدّها في المحافظة، منذ أن انطلقت من هناك الدعوات إلى انفصال ظفار نهاية ستينات القرن الماضي.
وبموازاة التحرك السعودي على الأرض، تتولى أبو ظبي مهمة إثارة مسقط إعلامياً، تارة عبر الدعوة إلى ضم جزيرة سقطرى (التي تعتبر السلطنة أن لها امتداداً متقادماً فيها) إلى الإمارات، وطوراً عبر إحياء الحساسيات التاريخية المتصلة بالحدود بين الدولتين، خصوصاً محافظة مسندم العُمانية التي لا تخفى الأطماع الإماراتية فيها. وإذا كان ذلك هو الظاهر إلى الآن، فإن اللغة المستخدمة في الوثائق المُسرّبة تشي بخطوات أخرى مخفية ربما يكون العمل جارياً عليها، وقد لا تكون بعيدة مما كشفته السلطنة عام 2011، عندما أعلنت تفكيك شبكة تجسس إماراتية تستهدف «نظام الحكم» و«آلية العمل الحكومي والعسكري». خطوة من هذا النوع، تحسب أبو ظبي والرياض أن بإمكانهما الاستفادة من نقاط ضعف عُمان حالياً (وفي مقدمها عدم وضوح مستقبل الحكم بعد السلطان قابوس) لإتمامها، من شأنها أن تفتح الباب على سيناريوات لا يبدو أنها ستعود على السعوديين والإماراتيين بأكثر مما عاد عليهم - إلى الآن - قرار مقاطعة قطر.
مشاركة عُمانية في تأمين «مونديال قطر»
في وثيقة مؤرخة بـ9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، تحمل عنوان «أمير قطر يستقبل وزير الداخلية العماني على هامش مؤتمر أمني»، يتحدث القائم بالأعمال بالإنابة، خالد علي الطنيجي، عن دور عماني محتمل في تأمين كأس العالم 2022، ضمن مساعي الدوحة إلى أن «تستعين بخدمات أجهزة أمنية من دول صديقة، للمساعدة في تأمين» تلك الفعاليات. مساعٍ يضعها الطنيجي في سياق العمل القطري على «اجتذاب الحلفاء واستمالة المواقف»، وهو ما تندرج في إطاره أيضاً - بحسب الديبلوماسي الإماراتي - «تحركات قطرية - عُمانية سابقة، في سياقات أخرى مختلفة، حيث وفّرت قطر خلال الأشهر الأخيرة وظائف لآلاف من العمانيين في قطاعَي التعليم والنقل الجوي والخدمات اللوجيستية، سواء عبر استقدامهم للعمل في قطر، أو توفير فرص عمل لهم في بلدهم، عبر تمويل وتأسيس ودعم مشروعات متنوعة في السلطنة». ويلحظ الطنيجي بنوع من الاهتمام - ضمن الوثيقة نفسها - أن الصحافة العُمانية «لم تُشر إطلاقاً إلى أن المؤتمر (الأمني الذي استضافته قطر في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017) مخصص لبحث الترتيبات الأمنية لكأس العالم... ولكن اكتفت بالإشارة إلى أن المؤتمر مخصص لسلامة الفعاليات الكبرى وأمنها»، في إغفال يماثل ما ورد في وثيقة أخرى معنونة بـ«زيارة وزير الخارجية القطري لسلطنة عمان» من أن هذه الزيارة «لم تلقَ (في السلطنة) التغطية الإعلامية المتعارف عليها، والتي يحظى بها المسؤولون على مثل هذا المستوى». وذلك ما يعزوه الطنيجي نفسه إلى «رغبة عُمانية في عدم تغيير الصورة النمطية للديبلوماسية العمانية التي تعلن دائماً الحياد».
حاكم دبي يشجع وساطة عُمانية!
في الوثيقة المعنونة بـ«زيارة وزير الخارجية القطري لسلطنة عمان»، يشير القائم بالأعمال بالإنابة، خالد علي الطنيجي، إلى «بدء سريان حديث» - وصفه بـ«اللافت» - «داخل أروقة القرار في السلطنة (عن) أن ما يشجع السلطنة على التصدي للعب دور الوسيط هو إشارات إيجابية تلقتها السلطنة من سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم (حاكم دبي) يشجعها فيها على المبادرة، لرفضه سياسة التصعيد التي يتبناها سمو ولي العهد الأمير محمد بن زايد». «إشارات» ليس صدورها عن آل مكتوم مستبعداً، في ظل الأنباء المتواترة عن امتعاض حكام الإمارات من استفراد ولي عهد أبو ظبي بتقرير مصير بلادهم، واعتراضهم على سياساته في ما يتصل باليمن والأزمة الخليجية. وقد كان آخر ما أميط اللثام عنه في هذا السياق هو ما نقلته صحيفة «نيويورك تايمز» يوم الأحد الماضي عن نجل حاكم الفجيرة، راشد بن حمد الشرقي، من أن فراره إلى العاصمة القطرية الدوحة مرده إلى «خوفه على حياته» بسبب الخلاف مع حاكم أبو ظبي. وتحدث الشرقي، في المقابلة، عن توتر بين المسؤولين الإماراتيين على خلفية حرب اليمن، لافتاً إلى أن عدد قتلى الإمارات في هذه الحرب يتجاوز الحصيلة المُعلنة رسمياً (مئة قتيل)، مضيفاً أن «هناك قتلى من الفجيرة أكثر بكثير من أي إمارة أخرى». واتهم الابن الثاني لحاكم الفجيرة، حكام الإمارات، بـ«الابتزاز وتبييض الأموال». وكانت «الأخبار» كشفت، في 29 أيار/ مايو الماضي، نقلاً عن مصدر خليجي مطلع، أن راشد الشرقي (رئيس هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام) لجأ إلى السفارة القطرية في لندن في الـ19 من أيار الفائت، حيث مكث لمدة 3 أيام، مُسرِّباً للقطريين الكثير من أسرار الدولة، قبل أن يُنقل في الـ23 من الشهر نفسه إلى مطار هيثرو، ومنه بطائرة خاصة إلى الدوحة التي دخلها بجواز سفره الديبلوماسي.
أبو ظبي: لكبح حركة وزير المالية القطري!
في تعليقه على نبأ زيارة وزير المالية القطري، علي بن شريف العمادي، إلى سلطنة عمان، في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، يورد القائم بالأعمال الإماراتي بالإنابة، خالد علي الطنيجي، ما يلي:
«الزيارة التي قام بها الوزير القطري تأتي في سياق جولة تشمل عدد من الدول العربية، حيث توجه بعد مسقط إلى الخرطوم حيث حظي باستقبال رئاسي من الرئيس السوداني عمر البشير، في إطار سعي الدوحة لكسب الحلفاء من دول المنطقة، أو على الأقل تحييد تلك الدول ودعم موقفها غير المنحاز لطرف لآخر في الأزمة الخليجية الأخيرة.
وزير المالية القطري على العمادي من أكثر المسؤولين القطريين نشاطاً باتجاه الجهود القطرية للخروج من الأزمة الحالية، ومن أكثرهم ظهوراً على المستوى الإعلامي، فقد قام بعدد كبير من الجولات الخارجية ورعى عدد من المناسبات والفعاليات داخلياً في إطار الجهود القطرية المشار إليها، وتتلخص مهمته في إيجاد منافذ تجارية واستثمارية لرؤوس الأموال القطرية والترويج للدوحة على عدد من المحاور، وهو أمر يتيح للدوحة تشكيل تحالفات إقليمية عن طريق دعم قطاعات اقتصادية متداعية في تلك الدول المستهدفة بتلك التحركات، مثلما يحدث مع السلطنة في الفترة الأخيرة، ومؤخراً استهدفت تلك الجهود السودان وقبلها المغرب وتونس، وهذا الأمر يحتاج إلى متابعة حثيثة من الجهات المعنية في الدول لوضع حد لحركة هذا الوزير».
استفادة متبادلة بين الدوحة ومسقط
يعلّق السفير الإماراتي في عمان، محمد سلطان السويدي، على نبأ توقيع اتفاقية بين الدوحة ومسقط للتنقيب عن النفط قبالة سواحل السلطنة، بما يلي:
«مستوى جديد ومتطور من العلاقات بين السلطنة ودولة قطر، يفتح الباب للدوحة لتوثيق علاقاتها أكثر بمسقط عن طريق اتفاقية تنقيب طويلة الأجل في مناطق استكشاف البترول الساحلية، في المنطقة 52 وهي منطقة الامتياز الساحلي المقابلة لحقول نفط عمانية مهمة وحيوية جنوب السلطنة، مثل حقول أمل ومرمول ونمر ومخيزنة، حيث ثارت مطالبات بالتنقيب البحري مقابل تلك الحقول على مدار السنوات الماضية. ويتضح من هذا التقارب بين الدولتين، أن السلطنة تسعى للاستفادة من الوضع الحالي الذي تمر به دولة قطر، والتي تحتاج إلى منافذ اقتصادية في ظل الإجراءات الخليجية تجاهها، حيث وجدت الدوحة في سلطنة عمان متنفساً لتبادل المصالح بين البلدين، ومن المعلوم أن السلطنة تعاني من وضع اقتصادي حرج، وينطبق الحال على قطر في ظل إجراءات المقاطعة الحالية. وتمثل تلك الاتفاقية حلقة ربط استراتيجية جديدة مع السلطنة، تفتح بها الدوحة منافذ جديدة لرؤوس الأموال لديها في استثمارات المدى الطويل، كما تشكل تلك الاتفاقية إضافة جيدة إلى الصورة القطرية في الإقليم، بحسب تصورات الدوحة، حيث تواجه عزلة إقليمية وخليجية، مثل تلك الاتفاقيات تستغلها قطر في محاولات تغيير تلك الصور، وتشكيل جبهة من حلفاء، تتفادي بها الدوحة «عصا» الإجراءات الخليجية، عبر «جزرة» الاتفاقيات الاقتصادية».