حمد العامر الأيام البحرينية-
أكثر من عام مرَّ على (الأزمة القطرية) التي كانت بمنزلة الشعرة التي قصمت أُسس وتقاليد العلاقات الخليجية المستقرّة منذ مئات السنين وجعلتها تسير في نفق مظلم، لتعيش منطقة الخليج حالة قلق وتوتر شديد وانقسام ليس معلومًا نهايته، وتتراجع -إثر ذلك- منظومة (مجلس التعاون) إلى نقطة الصفر، ويعيش مواطنو الخليج في ذهول وحيرة بسبب الأحداث المتواترة والمتصاعدة يومًا بعد الآخر، وتنهار آمالهم وتطلعاتهم في قيام (الاتحاد الخليجي) الذي هو السبيل الوحيد لتحقيق أعلى درجات التكامل بين دول الخليج في المجالات الدفاعية والأمنية والاقتصادية والاتفاق الاستراتيجي لحفظ منطقة الخليج من تبعات التوترات والحروب القائمة والتهديدات المحيطة، ومقاومة الضغوط الأمريكية التآمرية وخططها المستمرة لزعزعة استقرار المنطقة بإسقاط أنظمة الحكم فيها، ومواجهة التصريحات الابتزازية للرئيس الأمريكي ترامب، وصدّ الأطماع والتهديدات الإيرانية وتدخلها السافر في شؤون دول مجلس التعاون، والوقوف أمام السياسة البريطانية المتقلبة والماكرة.
إن (الأزمة القطرية) هزّت كيان المنطقة وأنهت كل الآمال في عودة العلاقات الخليجية الخليجية إلى طبيعتها، وغيومها السوداء ظللت دول مجلس التعاون التي تعيش وضعًا سياسيًا وأمنيًا معقدًا جدًا، وضع منطقة الخليج في خطر محدق يشقّ الصف الخليجي ويدخله في معارك ضارية تدمّر كل إنجازاته وتزعزع استقراره الداخلي، خصوصًا أن هذه الأزمة تقدّم لإيران فرصة ذهبية لتصبح قلب القرار السياسي والاقتصادي والاستراتيجي في المنطقة.
وبنظرة حيادية وموضوعية، فإلى جانب تحقيق (مجلس التعاون لدول الخليج العربية) منذ تأسيسه في (25 مايو 1981) الكثير من الإنجازات والمساهمات التي لها عظيم الأثر على أمن واستقرار المنطقة والعالم، نجد أنه سجّل إخفاقات أساسية في مسيرته الطويلة، وعلّ أهمها عدم تمكنه من الانتقال إلى (مرحلة الاتحاد) الذي اقترحه المغفور له خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود في قمة الرياض في (ديسمبر 2011) وشكّل مفاجأة عند عرضه على أصحاب الجلالة والسمو القادة ووفودهم المرافقة، ما حدا بهم إلى تشكيل هيئة متخصصة لدراسته، إذ اعترضت سلطنة عُمان عليه آنذاك لأسباب سيادية بالدرجة الأولى، وهذا يؤكد فشل مجلس التعاون في إذابة الخلافات الحدودية بين دوله، واختلاف سياساتها تجاه الأزمات التي عصفت به وبالمنطقة، كالأزمة القطرية والحرب في اليمن والعلاقات مع إيران.
لذلك، فإن فشل منظومة مجلس التعاون لتنفيذ ما نصّت عليه المادة الرابعة من نظامه الأساسي بالوصول إلى (الاتحاد الخليجي) يعود إلى الأسباب الآتية:
عدم استكمال المواطنة الخليجية الكاملة (كالسوق الخليجية المشتركة والوحدة النقدية والجواز الخليجي الموحَّد ومشروع الربط المائي ...) وغيرها من المشاريع التنموية التي تنصب جميعها في تعزيز الخطوات الوحدوية بين دول المجلس للوصول إلى الوحدة الاقتصادية الكاملة، وإلغاء الأنانية السياسية والسيادية بما يعزز منطقة مجلس التعاون مركزا ماليا واستثماريا واقتصاديا عالميا.
عدم التوصّل إلى حلول ناجعة للخلافات الحدودية التي تشكّل حالة مبطنة من عدم الثقة بين دول المجلس، وتؤثّر على العلاقات الثنائية والجماعية، وتلقي بظلالها على جميع القضايا الحساسة المطروحة للنقاش على جميع المستويات، فالحل الجذري لتلك الخلافات يتطلّب تنازلات سيادية لحماية كيانات دول المجلس واستقلالها من التهديدات والمخاطر المحدقة بها من كل الجهات، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي الذي تخلّت دوله عن سيادتها لتحقيق مصلحة أشمل هي تعزيز مكانة الاتحاد وتفعيل قوته وتأثيره في المجالات السياسية والأمنية والدفاعية والاقتصادية على المستوى الأوروبي والدولي.
عدم اتفاق دول المجلس على رسم سياسة خليجية خارجية موحّدة، وعدم توافق الرؤى حول تحديد المصالح وتشخيص التهديدات الأمنية المحدقة بها، وتحديدًا السياسات المتباينة تجاه إيران التي استغلّت ذلك التباين لتحقيق أهدافها بشقّ الصف الخليجي من خلال توطيد علاقاتها مع بعض دول المجلس. عدم تمكن دول مجلس التعاون من تحقيق نتائج متقدمة في مجال حماية حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير رغم الجهود المبذولة في هذا الشأن استجابة للضغوط الشديدة التي تتعرّض لها من قِبل الدول والمنظمات الحقوقية وأعضاء البرلمانات الدولية التي تتعاطف مع مطالبات الشعوب العربية والخليجية تحديدًا، وذلك بسبب فشل مؤامرة الفوضى الخلاقة في تحقيق هدفها في إسقاط أنظمة الحكم الخليجية وإقامة أنظمة تعددية ديمقراطية إسلامية على النهج الإخواني التركي القريب فكرًا ورؤية من نظام ولاية الفقيه الإيراني، بتمهيد الطريق لصعود تيار جماعة الإخوان المسلمين في مصر وبعض دول مجلس التعاون، والدعم الذي تلقاه تلك الجماعة من بعض دول المجلس والولايات المتحدة الأمريكية باعتبار النهج الإخواني الذي يقوده أردوغان هو السبيل الأمثل لتحقيق تطلعات الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية، رغم أنه يتعارض تمامًا مع سياسة دول مجلس التعاون.
فشل دول مجلس التعاون في تحقيق تقدم في مسارات العمل الاقتصادي والتجاري وإغلاق عدد من الملفات الاقتصادية الرئيسة العالقة، رغم وجود اتفاقية اقتصادية وتشكيل (هيئة الشؤون الاقتصادية والتنموية) برئاسة ولي العهد السعودي وعضوية أولياء العهود، ومنحها جميع الصلاحيات اللازمة للنظر في القضايا التي تعرقل تحقيق المواطنة الخليجية الكاملة التي أشبعتها اللجان الوزارية الخليجية بحثًا وتمحيصًا طوال السنوات الماضية دون التوصل إلى توافق أو إجماع حولها، وفيما يبدو أن حضور وزراء المالية اجتماعات هذه الهيئة سبب في جمود المواقف تجاه تلك القضايا التي تتطلَّب معالجتها قرارات حاسمة وتنفيذا فوريا.
عدم وجود أسس ثابتة تُبنى عليها (العلاقات الخليجية الإيرانية)، تعكس سيادة دول مجلس التعاون وموقفها الموحّد تجاه التصرفات الإيرانية غير المسبوقة وتدخلاتها المستمرة في الشؤون الخليجية باستخدام أذرعها الممتدة بقوة في العراق، ومشاركة ميليشياتها في الصراع الدائر في سوريا وتعطيلها لانتخابات الرئاسة في لبنان، وتدخلها في غزة ودعمها لا المحدود للحوثيين في اليمن الذي لولا التحالف العربي الذي تقوده السعودية لكانت الفاجعة بتطويق إيران للجزيرة العربية من الجهات كافة؛ لذلك فإن تعليق الأمل على مناشدة إيران بتغيير سياستها لا يمكن أن يتحقق، كون التدخل الايراني في الشؤون الداخلية لدول المجلس هو أداة لتنفيذ أحد أهم بنود الدستور الايراني الذي يدعو إلى تصدير مبادئ الثورة الخمينية.
ومن هنا يمكن القول إنه رغم عمر المجلس الذي جاوز (37) عامًا، وما قطعه من مسافات مهمة نحو وضع الأسس الراسخة للمواطنة الخليجية الكاملة، وما وصل إليه من خطوات متقدمة نحو التكامل في المجالات الاقتصادية والتجارية بين دوله، إلا أنه بحاجة ماسّة إلى إزالة كل ما يمثّل حجر عثرة أمام تحقيق المجلس لهدفه الأساس وتطلعات مواطنيه وآمالهم في إقامة الاتحاد الخليجي المنشود.