محمد إلهامي- الخليج أونلاين-
بعث الله في نفوس المؤمنين حب البيت الحرام والشوق إليه، وكانت تروي لي أمي عن جدتها رحمها الله أنها حجَّت على مواكب الجِمال، وأن الناس في تلك الأيام كانوا يوَدِّعون الحاج كوداعهم الميت، فإن الطريق طويل، والأخطار كثيرة، وقد يكون الخطر بسيطاً كعقرب أو أفعى في الصحراء، أو مرضاً بسيطاً لا طبيب له ولا دواء، وقد يكون خطراً كبير كما يحدث من قُطَّاع الطريق أو ظلم الحُكَّام ونحوه.
والمقصود أن رحلة الحج كانت أشبه برحلة الموت، إلا أن الشوق الذي يتردد في صدور المؤمنين لا يفتر ولا يهدأ حتى يحرك صاحبه إلى هذه الرحلة ولو كانت رحلة موت!
ولست أنسى يوماً كنت فيه في مؤتمر بجامعة إفريقيا عن "طرق الحج في إفريقيا"، فاستفدت من بعض المشاركين أن المذهب المالكي يجعل الاستطاعة في الحج هي الاستطاعة البدنية، بمعنى أن صحيح البدن قد فرض عليه الحج ولو كان فقيراً، فكان أهل الشمال والغرب الإفريقي يخرجون من بلادهم البعيدة، فإذا نفدت نفقته عمل في أي عمل يلقاه في أي بلد حتى يحصل أجر مرحلة من الرحلة، فلا يزال يعمل وينتقل إلى أن تنفد نفقته فيعمل ثم ينتقل حتى يصل إلى البيت العتيق.
وهكذا اتصل المسلمون في أقصى غرب إفريقيا والأندلس بالحرمين والمشارقة، وهكذا بقيت الأمة واحدة متجانسة.
ولكن السؤال الذي يلح على الخاطر: أي شوق هذا الذي يحمل صاحبه على أن يتكبد كل هذا العناء في رحلة مخوفة مجهولة محفوفة بالمخاطر؟! لا تفسير لهذا بأي مقياس مادي، إنما هو الحب الذي أودعه الله قلوب المؤمنين.
يروي محمد لبيب البتانوني في رحلته إلى الحج "الرحلة الحجازية" (1327هـ = 1909م)، وكان ممن اختير ضمن موكب الخديوي عباس حلمي الثاني لما عزم على الحج، يروي أن الحج يهذب الأخلاق تهذيباً لو أن الحكومات انتبهت إليه ليسرت سبيل الحج على الناس، وذكر أن الحكومة المصرية كانت "في الزمن الغابر تُخرج إلى الشوارع والحارات في أشهر الحج أناساً يتغنون بأناشيد (يسمونها تحانين)، تُحرِّك عواطف الناس إلى أداء هذه الفريضة" (الرحلة الحجازية، ص 162).
وذكر الشيخ رشيد رضا في رحلته للحج (1334هـ = 1916م) نفس الملاحظة عن تشويق الحكومة المصرية للحج، فروى أن ركاب الدرجة الثالثة كانوا ينامون على ظهر السفينة، وأولئك كانوا "من أدنى طبقات المصريين، قد دعَّهم إلى الحج دعّاً ما كان من عناية الحكومة ببعث حجاج يحجون، وحَمْلِها الأغنياء على مساعدة الفقراء على الحج بالمال، فوق ما كان من تسهيل سائر الأسباب" (مجلة المنار 19/563).
وهذه الحكومة المصرية التي نتحدث عنها هنا ليست حكومة إسلامية، بل هي حكومات فاسدة كانت تحت الاحتلال الإنجليزي، وكان رأسها الخديوي أو الملك هو سليل أسرة محمد علي باشا زعيم التغريب والعلمنة في العالم الإسلامي، ومع ذلك فإن بعض الشر أهون من بعض، فما لاقيناه من حكم العسكر من بعدهم صار يُشَوِّق إلى أيامهم! كما أن حكومة الحجاز في تلك الأيام أيضاً لم تكن حكومة إسلامية بل كانت تنسج المؤامرة مع الإنجليز للانقلاب على الدولة العثمانية فيما عرف بالثورة العربية.
هذه المساعدة والتشويقات التي كانت تبذلها الحكومة وتساعد الفقراء ليحجوا، تثير الأذهان لمعرفة كم كان يكلف الحج في تلك الأيام، ومن حسن الحظ أن المؤرخ المصري الكبير د. حسين مؤنس أخبرنا أنه حجَّ في عام 1937 (أي في مطلع عهد الملك فاروق)، يقول: "لم يكن معي إذ ذاك إلا مئة جنيه كنت قد ادخرتها، وكانت كافية في تلك الأيام لكل مطالب الحج من نفقات سفر وإقامة وما لا بد من أدائه من ضرائب قليلة كان لا بد من دفعها"، وفي نهاية الرحلة كان قد أنفق ثمانين جنيهاً فقط، ومن ضمن ذلك السفر ذهاباً وإياباً!!
كان عمره في هذا الوقت ستة وعشرين عاماً، وكان الجنيه المصري وقتها يساوي 4 دولارات، أي إن تكلفة الحج على المصري كانت تساوي 320 دولاراً، وهو ما يوازي الآن خمسة آلاف جنيه مصري، لكن رحلة الحج هذه الأيام تكلف المصري في المتوسط مئة ألف جنيه!!
منذ ذلك الوقت حتى الآن جرت في النهر مياه كثيرة، قيل عن مصر إنها استقلت وصار يحكمها أبناؤها الوطنيون، وفاض نهر النفط في الحجاز حتى صار ملوكها وأمراؤها مضرب المثل في البذخ والترف والإسراف وهدر الأموال، ومع ذلك اختفى من مصر التشويق إلى الحج وتضاعفت تكاليفه، كما ضيَّقت السعودية على الحج وفرضت عليه الضرائب، خصوصاً ذلك الذي أراد تكرار الحج والعمرة، فعليه أن يدفع الأموال الكثيرة لسلطات مصر ثم لسلطات السعودية.
أما الذي صارت تُشَوِّق إليه مصر وتسهله السعودية فأمر آخر، إنها حفلات الرقص والخلاعة والمجون في جدة، إذا قصدت إلى تلك الحفلة خرجت لك التأشيرة السعودية في دقائق، ولم تكلفك السلطة المصرية شيئاً من الضرائب. وقد حاول بعض الأذكياء استثمار هذا في الذهاب إلى العمرة فألقي القبض عليهم في السعودية ثم خضعوا للتحقيق الأمني في مصر، إذ كيف لك أن تستغل تسهيلاتنا لحفلات الطرب والرقص فتذهب إلى البيت الحرام؟!
هذا فضلاً عن أن السلطة السعودية تمنع كثيراً من المسلمين أن يحجوا أو يعتمروا، فالذي يعارض السلطة السعودية لا يستطيع أن يفكر في زيارة البيت الحرام ولا أن يتمتع بالأمن فيه، على أن السعودية لا تقتصر في ذلك على معارضيها، بل هي تتطوع فتحرم معارضي الأنظمة الأخرى الصديقة أيضاً، وقد وقع أنَّها سلَّمت حجاجاً ومعتمرين إلى أعدائهم يسومونهم سوء العذاب ثم يقتلونهم!!
بل أكثر من ذلك؛ السلطة السعودية تمنع شعباً من الحج لأن السعودية على خلاف سياسي مع النظام الحاكم هناك، أعني: المسلمين في قطر، وهذه عقوبة فريدة من نوعها، قد أنكرها أهل الجاهلية الأولى، فلقد كانت قريش في مأزق شديد أمام العرب أن منعت رسول الله من العمرة وهما على عداء، حتى قال حليف قريش الحليس بن علقمة: أيحج الناس من لخم وجذام وحمير ويُمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟!!
كلما شب الشوق إلى الحرم في نفسي تناولت كتاباً من كتب الرحلات الحجازية، أتلمس في الحكاية عن بيت الله إرواء شيء مما في صدري، فإذا الرحلة تزيد الشوق شوقاً، ثم جاء صبيحة يوم لا أنساه، حصلت فيه على كتاب "المختار من الرحلات الحجازية"، وهو كتاب بديع ممتع عجيب، جمع الرحلات الحجازية ومن ضمنها المغمور المطمور، ثم لخصها وانتقى منها، ونشرها رحيقاً لذيذاً يجمع بين المتعة والفائدة.. كان هذا الكتاب أحد أغلى ما في مكتبتي من الكتب، أتناوله كل حين وأنهل منه رحيقاً عذباً من أجواء البيت الحرام. لكني كلما تناولته آلمني وعذبني أن مؤلفه الآن في سجون السعودية، إنه الداعية الموهوب صاحب الهمة العالية والمؤلفات الغزيرة، محمد موسى الشريف!!
رجل من آل البيت، من أهل المدينة، وأمه مصرية، جمع في برديه بين الحجاز ومصر.. فلو كانت مصر ما تزال تثير الأشواق للحرم، أو كانت السعودية ما زالت ترحب بالحجاج، لكان هذا الرجل وكتابه يوزع مجاناً على الشعوب! بدلاً من تأشيرات اللهو والخلاعة التي تصدرها هيئة الترفيه!
ألا لو كان للمسلمين خليفة لأنشدنا له قصيدة شوقي الباكية المبكية التي شكا فيها من ولاة مكة وظلمهم وجورهم قائلاً:
ضجَّ الحجاز، وضجَّ البيت والحرم .. واستصرخت ربَّها في مكة الأممُ
قد مسَّها في حماك الضُّر، فاقض لها .. خليفةَ الله، أنتَ السيدُ الحكم
أُهِينَ فيها ضيوفُ الله واضطُهِدوا .. إن أنت لم تنتقم فالله مُنتقم
عزَّ السبيلُ إلى طه وتربِته .. فمَنْ أراد سبيلاً فالطريقُ دم
ربَّ الجزيرةِ أدرِكْها فقد عَبثَتْ .. بها الذئابُ، وضلَّ الراعيَ الغنم
إن الذين تولَّوْا أمرَها ظلموا .. والظُّلمُ تصحبُه الأهوالُ والظُّلَم
في كلِّ يومٍ قتالٌ تقشعرُّ له .. وفتنةٌ في ربوع الله تضطرم