جلال سلمي - معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى-
تستمر أزمة الخليج بين دول الحصار ودولة قطر في تشكيل السياسة الخارجية الخليجية.
حاولت دول الحصار فرض "أطواق" برية وبحرية حول قطر لقطع طرقها التجارية والسيطرة على الخليج.
يؤكد حرص عُمان الشديد الحفاظ على التوازن في علاقاتها الخارجية دون الانجرار وراء أي دولة بعينها أنها حليف فعال لقطر.
قطر نجحت في توفير بدائل بحرية وجوية لتخفيف الحصار لكن استراتيجية إنشاء أطواق بحرية وبرية يجب أن تحظى بأولوية قصوى.
محاولات السعودية والإمارات لتعزيز نفوذهما الاقتصادي والأمني بالمنطقة تؤثر سلبيا على سيرورة التجارة ونفوذهما السياسي والدبلوماسي بالمنطقة.
* * *
بعد مواجهات دامت نحو عامين، تستمر أزمة الخليج بين "دول الرباعية" (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) ودولة قطر في تشكيل السياسة الخارجية الخليجية.
ففي أعقاب الإعلان عن مقاطعة الدوحة، حاولت دول الرباعية منذ ذلك الحين فرض "أطواق" برية وبحرية تحيط بقطر تهدف إلى قطع طرقها التجارية، وممارسة السيطرة على مياه الخليج على كلا الجانبين.
وفي حين لا يزال هذا الحصار غير مكتمل، حاولت "دول الرباعية" فرض طوق جوي على قطر إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل بعد أن حالت منظمة الطيران المدني الدولية دون حدوث ذلك. وواصل الطرفان فرض "أطواق" برية وبحرية حول الطرف الآخر ما أدى لإحداث تغيرات واسعة النطاق في التحالفات الإقليمية.
وفى خليج عُمان، عملت السعودية على زيادة استثماراتها في ميناء "جوادر" الباكستاني، الذي أصبح يمثل محور تعاون طويل الأمد بين البلديين على المستويين الاقتصادي والأمني.
على الجانب الآخر من الخليج في مضيق باب المندب، اتجهت السعودية أيضًا لإبرام اتفاقية لإنشاء قاعدة عسكرية على أرض جيبوتي، وركزت الإمارات على زيادة نفوذها في اليمن مع منع قطر من استخدام موانئها، وسعت لجعل موانئ دبي الأكثر أهمية في المنطقة.
ورغم المحاولات التي تقوم بها السعودية والإمارات لتعزيز نفوذهما الاقتصادي والأمني والتجاري في المنطقة، إلا أن تلك المحاولات قد تؤثر سلبيا على سيرورة التجارة ونفوذهما السياسي والدبلوماسي بالمنطقة، وقد توتر العلاقات مع جيرانها في آسيا الوسطى والقرن الأفريقي.
وحتى يتسنى لقطر مواجهة تلك الجهود التي تهدف لعزلها واستعادة توازن القوى في جميع أنحاء الخليج والمناطق المحيطة به، فمن مصلحتها أن تعمل على رفع مستوى التعاون لأعلى مستوى مع باكستان وعُمان والصومال وجيبوتي.
والآن وبعد أن بدى الاقتصاد القطري مستقرًا، وتم إنشاء طرق تجارية جديدة لتجنب الحصار، أصبحت قطر في وضع يتيح لها توفير بدائل أخرى لمواجهة النفوذ السعودي الإماراتي في المنطقة.
ومن ثم، فان وجود استراتيجية فعالة تساعد قطر في زيادة مشاركاتها في منطقة الخليج وتكفل لها بناء نفوذٍ تجاريٍ واقتصاديٍ وأمنيٍ وسياسيٍ بصورةٍ ضمنيةٍ لا تُثير امتعاض دول الإقليم والدول الكبرى، يمثل أولوية قصوى. وبالفعل، تشير الاستثمارات القطرية الكبيرة في الدول المذكورة أعلاه إلى مدى اهتمام قطر بتلك المناطق الإقليمية الهامة.
ورغم جهود السعودية والإمارات، فإن سعيهما لموازنة نفوذها قد يدفع حتى الحلفاء التقليديين مثل باكستان لزيادة علاقاتهم بقطر. وفي ظل تصاعد التوترات بين إيران والعديد من دول الخليج، قد ترى الدول المجاورة أن الدخول في علاقات أوثق مع قطر يعتبر الوسيلة الأمثل لضمان عدم جرهم إلى بؤرة النزاع.
ربما تُعدّ باكستان الحلقة الأقوى والأهم في هذا الطوق. فهي تمتلك قوةً عسكريةً وأهميةً دبلوماسيةً هامةً في محيطها. ورغم حجم ومتانة العلاقات بين الرياض وإسلام أباد، لكن الآونة الأخيرة شهدت تراجع نسبي بمستوى العلاقات السعودية الباكستانية، نتيجة تغيّر الموقف السعودي من قضية فلسطين ورغبة باكستان في عدم الانجرار إلى الاستقطاب المذهبي السعودي الإيراني.
وفي ضوء ذلك، يمكن أن تلجأ قطر لمنافسة الرياض من خلال المساهمة في تطوير مينائي "جوادر" و"كراجي" مما قد يكون موضع ترحيب أكبر مما هو متوقع. ويبدو أن مقاربة قطر قد تركز على تقديم استثمارات تشغيلية مديدة لباكستان وتزويدها بهبات نفطية وأسعار تفضيلية أقل من السعر السعودي.
ومع ذلك، يجب أن تتجنب قطر أي تحرك قد يُفسر من قبل الحكومة الباكستانية على أنه تحركٌ معادٍ ضد علاقاتها مع دول الإقليم الأخرى، ولا بُد من رفع تركيز الخطاب الإعلامي والسياسي في إطار التعاون الاقتصادي الذي يُطوّر العلاقات مع الزمن.
وفى هذا الصدد، صرح وزير التجارة القطري علي بن أحمد الكواري أن العلاقات التجارية الثنائية مع باكستان قد زادت بنسبة 230 بالمئة خلال 2018، مما يدل على آثار التوجه نحو باكستان.
وقد صاحب النمو الاقتصادي هذا تقديم الدعم الاقتصادي والطاقوي وزيادة مشاريع تجارية واستثمارية متبادلة الفائدة بين قطر وباكستان فضلا عن التعاون في مجال الصناعات العسكرية.
يُمكن أيضا اعتبار عُمان شريكاً هاماً في هذا الطوق الهادف لمواجهة حصار السعودية والإمارات، فخلافها التاريخي والحدودي مع الإمارات، والقلق الأمني العُماني من السعودية والإمارات يجعلها أكثر تقبلاً لمبادرات مطروحة من جانب قطر.
يُذكر أن البضائع التجارية التي تصل إلى قطر يجب أن تمر عبر سلطنة عمان أولا وذلك نتيجة المقاطعة، ففي يونيو/حزيران 2017، دشنت شركة الموانئ القطرية خطا ملاحيا يربط ميناء حمد بميناء صحار في سلطنة عمان.
كما يؤكد حرص سلطنة عمان الشديد الحفاظ على التوازن في علاقاتها الخارجية دون الانجرار وراء أي دولة بعينها أنها حليف فعال بالنسبة لقطر.
وهناك عدة مجالات مفتوحة أمام قطر لإبرام المزيد من اتفاقيات التعاون الاقتصادي مع عُمان، وذلك من خلال توفير آليات لمنح دولة الموانئ العُمانية أهمية إقليمية ودولية من خلال زيادة الاستثمار فيها واستخدامها على نطاق عالمي.
وفى منطقة القرن الأفريقي، قد تساعد الخلافات الحادة بين الأمارات وبين جيبوتي والصومال، قطر في توثيق علاقاتها مع كلا البلديين، فجيبوتي لا تقل أهمية عن دولة عُمان وباكستان حيث تُعدّ من حيث الموقع الجغرافي والأهمية الجيواستراتيجية والعسكرية، دولة محورية تساهم في ضمان أمن التجارة في الخليج.
وتكتسب جيبوتي أهميتها من خلال موقعها القريب لمضيق باب المندب وقناة السويس، كما أنها تُعد مُستقرة نسبياً مقارنة بدول القرن الأفريقي.
برز الصراع الأخير بين جيبوتي والإمارات نتيجة "حرب الموانئ" عام 2015 في عدن في اليمن، عندما حاولت الإمارات استخدام جيبوتي كقاعدة للتوغل في الجنوب.
كما عزز التعاون الإماراتي العسكري والأمني مع الجهات الفاعلة الأخرى في المنطقة - مثل الصين وإيطاليا - موقع الإمارات في القرن الإفريقي، لكن جيبوتي ظلت لاعباً رئيسياً غير مطمئن لزيادة النفوذ الإماراتي.
في المقابل، تتمتع جيبوتي بعلاقات إيجابية مع السعودية، حيث لعبت الأخيرة دورًا حيويًا في التوسط بين جيبوتي وإريتريا. كما أدى الاستثمار السعودي بالمنطقة إلى زيادة تطوير القواعد العسكرية الاستراتيجية، بما في ذلك إبرام شراكة مع جيبوتي لبناء قاعدة هناك في عام 2017.
ومع ذلك، فإن زيادة الاستثمارات القطرية، بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال الشركات متعددة الجنسية والخاصة - يمكن أن توفر مصادر بديلة لجيبوتي من حيث الاستثمار الأجنبي.
تشابه الصومال جيبوتي من حيث خلافها الحاد مع الإمارات، لكنهما تختلفان من حيث نوعية العلاقات بالرياض، إذ لم يصل مستوى علاقات الرياض معها -على الصعيدٍ الاقتصادي والاستثماري-إلى مستوى إنشاء قاعدة عسكرية.
من ناحية العلاقات مع الإمارات، فإنها في أوج توترها، حيث تجاوزت أبوظبي سيادة مقديشو مُبرمةً لاتفاقية مع "صومالي لاند" المُنفصلة عن مقديشو.
ومؤخرا، رسخت قناعة لدى المؤسسات الصومالية تقوم على أن التعاون الاقتصادي مع الإمارات، الذي يشمل تشغيلها للموانئ الصومالية، يأتي في إطار "حرب الموانئ" التي تقودها أبوظبي ضد موانئ المنطقة.
ومن ثم، فإن زيادة الإحباطات من مواقف الإمارات تجاه موانئ القرن الإفريقي قد تتيح آلية جديدة لزيادة التقارب مع قطر.
نظريا، جهود قطر الرامية لزيادة علاقاتها بهذه الدول قد تؤدي في الواقع لإحباط الجهود السعودية والإماراتية التي ترمى إلى تطويق قطر.
مع ذلك، تمثل كلا من باكستان وجيبوتي التحدي الأكبر أمام قطر لبناء أطواق بحرية وبرية، حيث تمتلك الرياض وإسلام أباد على وجه الخصوص تاريخًا قويًا من التعاون العسكري والاقتصادي.
ومع ذلك، فإن الجهود السعودية المبذولة للتقارب مع هاتين الدولتين تعتبر سببا قويا يدعو قطر لبذل المزيد من الجهود للتقارب مع معهما مستغلة تراجع علاقاتهما مع دولة الإمارات التي تلعب دورا أساسيا في تفعيل الحصار ضد قطر بالتعاون مع السعودية.
ورغم أن قطر قد نجحت نوعا ما في توفير بدائل بحرية وجوية تساهم بشكل كبير في تخفيف الحصار المفروض عليها، إلا أن استراتيجية إنشاء أطواق بحرية وبرية يجب بنهاية المطاف أن تحظى بأولويتها القصوى مما قد يساهم في توفير بيئة تجارية أكثر استقرارًا وتوازنًا لجميع الأطراف المعنية.