مهنا الحبيل- العربي الجديد-
يعود الجدل مجدّداً بشأن أحوال دول الخليج، في كل مرةً يلوح فيه أفق حلٍ للأزمة الخليجية، وأن الأمور ستعود إلى مجراها. ونكتب اليوم تزامناً مع القمة الخليجية في الرياض، والتي شهدت تطوراً بعد ضغوط أميركية، تزامنت مع انهيارات ضخمة لموقع الدولة السعودية، لا يعالجه عقد قمة مع ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، كلما ازدادت التحديات، وإنما يشير إلى إشكاليةٍ عميقةٍ في قدرات العهد السعودي، محمد بن سلمان، المستقلة، للخروج من المآزق الكبرى على الصعيد الخارجي، فضلاً عن النزف الحقوقي الداخلي، والمواجهات التي تعيشها الدولة مع أطياف المجتمع الدينية والاجتماعية والاقتصادية. وإذا ما تحققت انفراجة مهمة، ورُفع الحصار عن قطر، وأعيد السفراء، فسيحقق ذلك انتقالة في الحرب الإعلامية القائمة، ولكنه لن يتحول إلى فانوس سحري، يعيد كل الأمور إلى ما كانت عليه قبل الخامس من يونيو/ حزيران 2017.
ولنذكّر أولاً أن الجسم الخليجي شكّل نوعاً من التكتل الإقليمي العربي الذي صنع رادعاً سياسياً نسبياً، وتعاونا اقتصاديا محدودا، من دون أي قدرة دفاعية ذاتية، فظل الاعتماد على القواعد الغربية، والقوات العسكرية الأميركية الحليفة، هو البعد الحاسم الذي تلجأ له دول المجلس، لضمان أمنها القومي، وتتمتع هذه القواعد أو الوجود بمساحة ضخمة، ويتنافس على احتضانها أعضاء المجلس. وباستثناء عُمان التي صنعت جيشاً يقوم على العنصر الوطني الاجتماعي، وتأهيل مختلف، حافظت عليه، ليحمي حيادها، فإن بقية دول المجلس لا تملك هذا التأهيل، على الرغم من كل النفقات الضخمة. وقد تعرّضت السعودية لاختبار صعب، كشف واقع جهوزيتها، بعد حرب اليمن الراهنة، وتقدّم الحوثيين في الحرب.
أمّا التعاون السلبي فقد كان ضد حريات الشعوب وحركتها الحقوقية، وهو الملف الذي ظل أكثر فاعلية، طوال العقود السابقة، وأُلقي اليوم على ظلاله شك كبير، بعد أن استخدم هذا التعاون الأمني ضد الدول ذاتها وأنظمة الحكم، والغالبية الكبرى من حالات التسليم والمحاكمات قامت على خشية الدولة المهدَدة، إن لم تسلّم أو توقف هذا الحقوقي أو الناشط، وليس بناءً على مصالح أمنية عليا للمجتمعات والدول الخليجية. وهذا الأمر وغيره مطروحٌ للعودة في مفاوضات الأزمة الخليجية، ومن ذلك كيف تتم تسويات منابر المعارضات أو النشطاء، وهي قصةٌ معقدةٌ تقوم على تقدير المستقبل الجيوسياسي لواقع العلاقات والثقة المفقودة، حتى بعد الإعلان عن رفع الحصار. وتسريب السعوديين أنباء ملف مفاوضات مع الدوحة جاء غامضاً، ولكنه أعطى دلالة مهمة، حين أكدت الرياض أن الملف الرئيس هو علاقة قطر بجماعة الإخوان المسلمين. وتؤكد هذه الدلالة أن ملف المطالب الـ 13 كتلة وهمية تَشعر الرياض فعلياً بأن موسمها انتهى. ولكن كيف سيتم التعامل مع هذا الملف قَطرياً، فالجماعة ليست دولة ولا حكومة، وبالتالي لو اعتبر هذا الملف مدخلاً، فهو في الأصل ليس ضمن الملفات الصلبة لقطر، وهناك مساحةٌ مرنةٌ في التعاطي معه. وربما المرجّح هو وقف المنابر الإعلامية التي حرّكها سوق الأزمة. وبالنسبة للملف المصري تحديداً، أي الإخوان المصريين، فالعلاقة مع الحكم التركي، قوية ومتداخلة، وخصوصا بعد تحول شريحة ليست سهلة من الإخوان والسلفيين إلى عقيدة التيار العثماني الجديد والولاء له. ولا نعرف المساحة التي تسمح بوجود إضافي لأبناء مصر المعارضين، ومستقبل حراكهم، ولكن هناك رغبة تركية لبقاء الصلة الخاصة والاستفادة من "الإخوان"، في ظل صراع إصلاحيي حزب العدالة والتنمية مع الحكم والمحافظين الذين أعادوا صياغة الحزب الحاكم مع الرئيس أردوغان، بعد تصفية الإرث الفكري لأحمد داود أوغلو وبقية المنشقين، ثم ملف الصراع مع الأحزاب والقوى الكردية، داخل تركيا وخارجها، وملف ترحيل اللاجئين السوريين، أي أن هناك مساحة تحتاجها أنقرة لوجود "الإخوان" لتغطيه سياستها القومية أو الحزبية.
أما الملفات الخليجية الأخرى، فهناك رابط أميركي مؤكد، لضمان مشروع موحد يعزز الحصار السياسي لإيران، وأيضاً هناك ملف حساس للغاية، وهو تضرّر الرئيس الأميركي، ترامب، من الصراع الخليجي - الخليجي، وانعكاسه إعلامياً على مستقبله الانتخابي، وهنا تأتي صورة الحل، في مضمون فك اشتباك وإنهاء حالة القطيعة التي ستبقى مجرد غطاء لأزمة عميقة من الثقة.
ولن تتراجع الدوحة عن سلة بنائها الإستراتيجي، بما فيه، القاعدة التركية والعلاقات الخاصة مع أنقرة. ويدرك السعوديون ذلك، ولكن ربما تتحول الأمور إلى تسوية أو تهدئة بين أنقرة والرياض، تساهم فيها قطر. وذلك كله لا يخفف من آثار الانكشاف الإقليمي للخليج العربي، فلاتحاد السياسات الإيرانية والتركية بعد آخر أيضاً. والفراغ الذي أحدثته الأزمة الخليجية، ووضع المنطقة في مواجهة هذا التنسيق الإقليمي والدولي، بعد أن فتتت أبو ظبي الهيكل المعنوي، وأسقطت مفهوم التكتل الإقليمي العربي للخليج، هو أيضاً ليس في صالحهما، فيما إعادة هذا الهيكل، وشيء من التنسيق للمنظومة العربية التي سقطت في العراق وفي سورية، وشارك في ذلك دول الخليج، قبل أن تستثمر أنقرة وطهران هذا السقوط.
قد تحافظ الرياض على توازن مهم، لو صحّحت خطابها وسلوكها السياسي، وهو أمرٌ مشكوك فيه، فلا يوجد حتى اليوم أي مؤشرٍ لإعادة تقويم سياساتها، سوى استدعاء بعض كوادر فريق الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وهذا لا يكفي، ولذلك فمفهوم عودة الخليج العربي غامض بلا حدود.