تلعب العاصمة الأميركية، واشنطن، دورا فريدا مزدوجا في الشؤون العالمية، فمن ناحية هي العاصمة الأهم في عالم اليوم، ويحدّد موقفها تجاه أزمةٍ أو قضيةٍ ما موقف بقية دول العالم باستثناءات قليلة، إلا أنه، وفي الوقت نفسه، تسمح واشنطن وطبيعتها السياسية وإجراءاتها القانونية ببقائها مدينةً مفتوحة، يمكن التنافس فيها على التأثير في الموقف والقرار الأميركي تجاه قضايا عالمية كثيرة، من خلال شرعنه ظاهرة اللوبي والعلاقات العامة. وسمح الفصل بين السلطات بانتشار مراكز القوى بين السلطة التنفيذية والكونغرس والقضاء والإعلام بوجود مساحاتٍ واسعة للتأثير على عملية صنع السياسة الخارجية، حال فهم طبيعة المدينة وحدود التحرّك ومحفزاته داخلها.
من هنا، يمكن تقسيم دول العالم إلى فئات أربع، طبقا لطبيعة تأثيرها وعلاقاتها باللوبي، وبمحاولات التأثير على صانع القرار الأميركي.
- الأولى هي الدول المنافسة، وتشمل، إلى حد كبير، روسيا والصين. وعلى الرغم من انفراد أميركا بقمة الهرم العالمي في التكنولوجيا الحديثة، المدنية منها والعسكرية، إضافة إلى حجم اقتصادها ومواردها الطبيعية الهائلة، إلا أن حجم روسيا والصين وعسكرتهما وطموحهما يسمحان لهما بالتفكير في منافسة أميركا في بعض المجالات. من هنا، لا تتوقف بكين وموسكو عن بذل جهودٍ كبيرة داخل واشنطن، للتأثير المباشر في قراراتها السياسية، بما يخدم مصالح الدولتين، ويكون ذلك أحيانا على حساب المصالح الأميركية.
- تتمثل الفئة الثانية في الدول الغربية (دول حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي بصورة كبيرة)، تستغل هذه الدول اللوبيات وشركات العلاقات العامة، من أجل خدمة مصالحها التجارية والاقتصادية داخل الولايات المتحدة. وتهدف هذه الدول، ذات النظم الديمقراطية، والتي تعرف تداولاً منتظماً للسلطة، لخدمة أهداف غير سياسية، مثل جذب استثمارات وسياح أميركيين، أو الضغط لفتح السوق الأميركي أو تخفيض التعريفات الجمركية أو الضغط من أجل اتفاقيات تجارة حرة.
- وتمثل الفئة الثالثة حالات الدول الاستثنائية في علاقاتها بواشنطن، ومن أهم هذه الحالات حالة إسرائيل. ولإسرائيل لوبي رسمي من خلال عدة شركات لوبي تقليدية، ترعي مصالحها القانونية واللوجستية والضرائبية، إضافة إلى شبكة لوبي غير تقليدية وغير رسمية، تعمل بشكل أخطبوطي لخدمة مصالح إسرائيل من ناحية، وتعمل بالشكل نفسه ضد مصالح أعداء إسرائيل داخل الولايات المتحدة وخارجها.
- الفئة الرابعة تمثلها الدول الديكتاتورية التي لا تعرف التداول السلمي للسلطة، ولها سجلاتٌ سيئةٌ في مجال الحريات وحقوق الإنسان والقضاء.
وتهدف لوبيات هذه الدول وشركات العلاقات العامة التي تعمل لحسابها إلى تجميل سجل نُظم حكمها في الداخل الأميركي، وتحاول كذلك إبراز قوة علاقاتها الاستراتيجية بواشنطن، وتسعى جاهدةً إلى ثني إعلام واشنطن وساستها ودوائرها عن الحديث أو التركيز على شؤونها الداخلية وسجلاتها الحقوقية. وتحقق هذه النظم نجاحاتٍ وإخفاقاتٍ، طبقا لعوامل عديدة، لا مجال لذكرها هنا.
تقليديا، تنتمي أغلب النظم العربية لدول هذه المجموعة، إلا أن هناك سلوكيات مغايرة لما هو متعارف بين لوبيات النظم وأهدافها داخل واشنطن، تتمثل في لعب بعض هذه الدول أدواراً شاذة، أو السعي إلى تحقيق نجاحاتٍ وهمية، أو تشوية صورة دول مجاورة أو محاربة أفكار تقدمية، اعتقادا أن ذلك ينقلها إلى مصاف الكبار بالمعايير الأميركية، إلا أن الواقع والسلوكيات المتبعة تُبقيها بين الصغار.
وقد اختار الصغار تجاهل واقع مكانتهم عند الأميركيين، عندما تعلق الأمر بموضوعات جادة وحقيقية.
ففي عام 2006، وعندما حاولت شركة مجموعة موانئ دبي العالمية شراء حقوق إدارة ستة موانئ أميركية، خرج الجمهوريون والديمقراطيون يعلنون رفضهم الصفقة، ويرفضون أن ينتقل حق إدارة الموانئ إلى الشركة الإماراتية، ووقف اللوبي الإماراتي عاجزا عن المواجهة أو الرد.
وخلال النصف الثاني من العام الماضي، عجزت السعودية ولوبياتها عن وقف الكونغرس عن تبني تشريع "جاستا" بما يشبه الإجماع، وهو القانون الذي يتيح لعائلات ضحايا "11 سبتمبر" مقاضاة الحكومة السعودية أمام محاكم أميركية لاتهامات تتعلق بتمويل الهجمات بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
ولا يستطيع الصغار أن ينسوا أن أكبر حوادث الإرهاب في العالم (أحداث 11 سبتمبر 2001) قام بها 15 سعوديا وإماراتيان ولبناني وآخر مصري. ويتجاهلون أنه، وعقب وقوع الأحداث، شكل الكونغرس لجنة حكومية مستقلة، أجرت تحقيقاتٍ موسعة لمعرفة كيف، ولماذا ومن قام بالهجوم.
وفي وقتٍ اقتنعت فيه الدوائر البحثية والفكرية بأن غياب الديمقراطية ووجود الاستبداد ودعم واشنطن هذه النظم الفاسدة سبب مهم، يوجد بيئةً يسهل منها خروج إرهابيين. وربطت تحقيقات الكونغرس ببن الهجمات الإرهابية والأفكار الوهابية المتشدّدة.
ويحاول الصغار التغلب على هذه الاتهامات بتوظيف ما لهم من لوبيات ونفوذ وعملاء داخل واشنطن، للعمل على ربط هذه الحادثة تارة بجماعة الإخوان المسلمين، عن طريق وصمها أنها "الأم لكل الجماعات الإرهابية"، وتارة أخرى عن طريق ربط أحداث "11 سبتمبر" بإيران.
ويتعاون الصغار مع أعداء العرب التاريخيين بلا خجل أو مواربة، فيتجاهلون آفة الاحتلال الإسرائيلي وما يتركه على ملايين الفلسطينيين من معاناةٍ يوميةٍ، لا تتوقف على تحركاتهم وأعمالهم ودراساتهم ومرضهم وحجهم، بل تمتد إلى كل جزئيات حياتهم. توقف الصغار عن
"اختار الصغار تجاهل واقع مكانتهم عند الأميركيين، عندما تعلق الأمر بموضوعات جادة وحقيقية" إدانة ممارسات الاحتلال، ناهيك عن أنه أحد أسباب تصدّع خريطة الشرق الأوسط، ويضغط الصغار للتركيز فقط على آفة الإرهاب (الذي لا يرتبط في أذهانهم إلا بالمسلمين). ويتجاهل الصغار إرهاب الأخرين وظلمهم.
ويتبرّع الصغار بالملايين من أموال شعوبهم للأعمال الخيرية في أغنى دول الأرض، ملايين تذهب إلى مستشفياتٍ وملايين تنفق على دعم كرة القدم داخل الولايات المتحدة، وملايين أخرى تنفق لشراء ذمم وأقلام وكتابات صحفيين ومراكز أبحاث مختلفة.
ولا يمكن نجاحهم في قضايا حقيقية ذات قيمة، فقط ينجحون ويحققون مكاسب في المعارك التي لا ينافسهم فيها أحد، ولا يواجههم فيها أحد، معارك أولا وقبل كل شيء تنال رضى من يحتلون ثالث مقدسات المسلمين في القدس. معارك الصغار هي التي يتوهمون النصر فيها ما هي إلا تلك المعارك الحقيقية للوبي الإسرائيلي، معارك العداء لإيران، والعداء لديمقراطية العرب والعداء للإسلام السياسي.
ولا يتوقف الصغار عن مديح رئيس عنصري فاشي، لا يتوقف عن إهانة الإسلام والمسلمين، يمتدحون بلا توقف رئيساً لا يكن لهم سوى الاحتقار والدونية... لا بأس، فالصغار لا يدركون قيم الكرامة والعزة، فهم مازالوا صغارا.
محمد المنشاوي- العربي الجديد-