محمد المنشاوي- الشروق المصرية-
فى الخامس من شهر مايو/أيار الماضى تعاقدت وزارة الداخلية السعودية التى كان على رأسها حينذاك محمد بن نايف مع شركة لوبى لتخدم مصالحها وأهدافها داخل العاصمة واشنطن. التعاقد جاء غريبا، إذ إن العرف هو تعاقد السفارات كونها الممثل الرسمى للدول مع شركات اللوبى، إلا أن واشنطن تشهد مؤخرا ظاهرة تعاقد مباشر بين مؤسسات أمنية سيادية من نظم رجعية مع شركات لوبى أمريكية.
بعد عشرة أيام على تعاقد وزارة الداخلية السعودية وشركة «مجموعة سنوران للسياسات Sonoran Policy Group» تم تسجيل العقد الذى اطلعت عليه شخصيا مع وزارة العدل كما تنص القوانين الأمريكية. ويتضمن التعاقد الذى يستمر لمدة عام واحد أن تدفع الوزارة مبلغ 5.4 مليون دولار للشركة وتحصل الشركة عليه فى صورة أقساط شهرية تبلغ 450 ألف دولار شهريا.
ونظير ذلك تقوم الشركة بتقديم الدعم لوزارة الداخلية السعودية فى واشنطن وخارجها من خلال استشارات متنوعة تتضمن مجالات العلاقات العامة والتواصل الإعلامى والشئون العامة والتسويق لها والتواصل مع الساسة الأمريكيين. يتضمن التعاقد شرطا مهما حول الحفاظ على سرية الأنشطة التى تطلبها وزارة الداخلية، وسرية وتفاصيل ما تقوم به الشركة الأمريكية.
اختارت وزارة الداخلية السعودية تلك الشركة تحديدا بسبب قرب مديريها الكبار من الرئيس الأمريكى ترامب وفريق عمله، فقد استقطبت الشركة فى ديسمبر الماضى «ستيفن جولي» أحد أركان حملة ترامب الانتخابية ليعمل مديرا تنفيذيا لها، وقبل ذلك بشهر واحد استقطبت الشركة «جاكوب دانيالز» مسئول حملة ترامب فى ولاية ميتشيجان لينضم لفريق مدرائها.
وبعد تسجيل التعاقد بخمسة أسابيع وفى يوم 21 يونيو الماضى تم الإطاحة بولى العهد السعودى ووزير الداخلية محمد بن نايف، وتجريده من كل مناصبه.
* * *
منذ الإطاحة بابن نايف خرجت عدة تقارير إخبارية أمريكية فى الصفحات الأولى للجرائد الأكثر شهرة ومصداقية تؤكد أن هناك معركة صامتة داخل العائلة الحاكمة السعودية لم تنته مع الانقلاب الأبيض الذى نُحى على أثره وزير الداخلية الأسبق.
فعلى سبيل المثال قالت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأسبوع الماضى إن الديوان الملكى السعودى اتخذ تدابير للحد من حرية ولى العهد السابق بن نايف، ومنعه من التحرك داخل المملكة السعودية وخارجها، وذلك بالتزامن مع حملة واسعة تقوم بها الحكومة ضد الأصوات المعارضة والناقدة للسياسات الجديدة بعد تعيين محمد بن سلمان وليا للعهد.
ونوهت الصحيفة إلى العلاقات الطيبة التى كان يتمتع بها ولى العهد المخلوع محمد بن نايف مع كبار المسئولين الأمريكيين خاصة هؤلاء ممن يشرفون على ملفات الاستخبارات ومكافحة الإرهاب.
أما صحيفة نيويورك تايمز فقد كشفت أن ابن نايف «حبيس قصره فى مدينة جدة الساحلية»، وممنوع من مغادرة المملكة السعودية، ونقلت الصحيفة عن أربعة مسئولين أمريكيين، حاليين وسابقين، مقربين من الأسرة السعودية الحاكمة أن القيود الجديدة المفروضة على ابن نايف، والذى كان يبعد خطوة واحدة عن العرش كما ذكرت، وكان يتولى قيادة أجهزة الأمن الداخلى فى المملكة، تهدف إلى الحد من أى معارضة محتملة لولى العهد الجديد ابن سلمان. وأعطى غياب وعدم ظهور ابن نايف منذ إطاحته مصداقية لهذه التقارير.
من ناحية أخرى، وفى واشنطن، وقبل الإطاحة بابن نايف، أصدرت شركة اللوبى «مجموعة سنوران للسياسات» بيانا أشادت فيه بـمحمد بن نايف، وبعمله فى وزارة الداخلية. ووصف بيان الشركة بن نايف بأنه قوة تدفع باتجاه الاعتدال فى المنطقة، وأنه يتعرض باستمرار للهجوم من قبل العناصر المتطرفة فى إشارة لمحاولات سابقة لاغتياله.
* * *
عرفت واشنطن محمد بن نايف جيدا، فالرجل درس فى إحدى جامعات ولاية أوريغون، وتدرب كذلك فى مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI، واقترب من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية نتيجة إشرافه على ملفات شديدة الحساسية كمواجهة تنظيم القاعدة داخل السعودية، وتبنى برامج إعادة تأهيل وإصلاح الإرهابيين.
وأشرف ابن نايف مباشرة على التنسيق الأمنى والاستخباراتى مع نظرائه الأمريكيين، وهو ما دعا جورج تينيت، المدير الأسبق لـ«سى آى إيه» للقول إنه «الأهم من بين الأشخاص الذين تحدثت إليهم. فهو صغير نسبيا، وقد وضعنا فيه قدرا كبيرا من الثقة وأوليناه احتراما عظيما»، ومدحه كذلك ليون بانيتا، مدير سابق للمخابرات الأمريكية، قائلا عنه «إنه الأذكى والأكثر خبرة فى أبناء جيله».
على النقيض من ذلك، مثّل صعود نجم ابن سلمان خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة مفاجأة كبيرة لواشنطن ودوائر صنع القرار بها، فهى لا تعرفه جيدا بعد، فقد تلقى تعليمه داخل السعودية، ولم يعش التجربة الأمريكية كغيره من الأمراء السعوديين. وقد تعرفت واشنطن على ابن سلمان من خلال آليتين فقط:
- أولهما من الأخبار التى لا تتوقف عن مغامراته وأنشطته العسكرية مثل الحرب اليمنية،
- وتمثل كتابة معلقين أمريكيين من العيار الثقيل مثل توماس فريدمان، أحد أهم كتاب نيويورك تايمز، وديفيد إجناشيوس الكاتب البارز بالواشنطن بوست عن بن سلمان الآلية الثانية.
يسيطر الترقب على «عقلاء واشنطن» فيما يتعلق بمستقبل المملكة السعودية خاصة مع التغيرات والقلاقل المتسارعة على حدودها الجنوبية أو الشمالية أو حتى الشرقية. ولا تستطيع واشنطن فك طلاسم سياسات قصور آل سعود التى تختلط فيها الاعتبارات العائلية والقبائلية، باعتبارات الزواج والإنجاب، وهوية الأمهات.
قبلت واشنطن وصول ابن سلمان لسدة الحكم رغم ما لديها من عوامل قلق وتحفظات ترتبط بقراراته المتسرعة وقلة خبرته من ناحية، ومن ناحية أخرى، عدم معرفتها به وعدم معرفته هو بواشنطن وبأمريكا.
بعض الأمريكيين يعتقدون أن بن سلمان يمثل فرصة حقيقية للتحديث نظرا لصغر سنه، وعدم ارتباطه بالتقاليد السعودية المتشددة، إلا أن البعض يدرك أيضا أنه كفرصة قد يتحول لأزمة لا يمكن معها السيطرة على زمام أمور الحليف السعودى الهام.
بعدما أُطيح بمحمد بن نايف يبقى هناك تساؤل مهم، وهو هل سيتحول هذا التعاقد بين الشركة الأمريكية ووزارة الداخلية للدفاع عن مصالح وصورة محمد بن سلمان فى واشنطن، أم أنها ستبقى وفية للأمير المخلوع؟
هل ستستمر فى تلقى دفعات مالية كل شهر كما نص التعاقد؟ ومن سيدفع لها؟ هل سينتقل التعاقد تلقائيا لمن هم الأن على رأس وزارة الداخلية السعودية؟ أم يستخدم المعارضون لمحمد بن سلمان هذا التعاقد كشوكة فى ظهر الجهود السعودية داخل واشنطن.
حاولت التواصل مع شركة اللوبى للحصول على إجابات، وفشلت ووجدت أن موقع الشركة الإلكترونى لم يعد يوجد عليه سوى رقم هاتف لا يرد وبريد إلكترونى شديد العمومية وكأنهم لا يريدون التحدث لأحد عما ينوون القيام به.