طوال سنوات عديدة، ظل التعاون الجيوستراتيجي بين (إسرائيل) والمملكة العربية السعودية لمواجهة النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط قيد الكتمان خاصة مع امتلاك (إسرائيل) لترسانة نووية كبيرة. ومع ذلك، فقد كان التنسيق العام من المحرمات، في الوقت الذي يجري فيه التنسيق غير المباشر، وربما المباشر في بعض الأحيان، خلف الأبواب المغلقة في غياب أي علاقات رسمية.
يرجع سبب ذلك بطبيعة الحال إلى طبيعة العلاقة المعقدة بين (إسرائيل) والعالم العربي. كان على هذا العالم العربي أن يتعامل مع الآثار الكارثية لفرض دولة (إسرائيل)، وهي كيان يهودي بالضرورة، على أرض فلسطين التي تعد موطنا لمئات الآلاف من العرب الذين تحولوا إلى لاجئين يعيشون حياة غير مستقرة في جميع أنحاء المنطقة تحت الاحتلال العسكري أو في مخيمات اللاجئين. لا تزال قضية فلسطين جرحا مفتوحا في جسد العالم العربي، وحتى يشفى هذا الجرح، فسوف يكون من الصعب أن نرى العلاقات بين (إسرائيل) والمملكة العربية السعودية تتجه نحو العلنية.
قامت السعودية، في خطوة مدعومة من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، بطرح ما أصبحت تعرف باسم مبادرة السلام العربية في عام 2002. لم تكن المبادرة سوى إطارا للسلام لم يعد اختراع العجلة. في واقع الأمر فإن الشروط التي حوتها لم تكن تضم سوى تقييد (إسرائيل) بالقوانين والقرارات الدولية الصادرة بحق الأراضي الفلسطينية. الجديد في هذه المبادرة كان هو الإجماع العربي والإسلامي الكبير خلفها. باختصار، لم يكن مطلوبا من (إسرائيل) أكثر من قبول حل يتضمن الالتزام بالخطوط العرضية للقانون الدولي في مقابل فتح الطريق نحو تطبيع العلاقات مع جميع الدول العربية والإسلامية. وحتى تلك الدول العربية والإسلامية مثل إيران وسوريا، والتي كانت تعارض بحماسة أي شكل من أشكال التطبيع مع (إسرائيل)، كانت لتتحرك في نهاية المطاف في هذا الاتجاه إذا كان هناك سلام عادل.
ومع ذلك فقد شهدت الـ14 عاما التي مضت منذ إطلاق مبادرة السلام العربية بناء الآلاف من المنازل الاستيطانية غير القانونية، وثلاثة حروب مروعة على قطاع غزة، وملكين جديدين في السعودية، والحرب الأمريكية في العراق، واتفاق نووي مع إيران. وقد أنتج هذا الخلط في النظام الإقليمي تقاربا ظاهرا في المصالح السعودية والإسرائيلية، مع إغراءات بإظهار هذا التحالف إلى العلن.
العرب بحاجة إلى غطاء فلسطيني
كان هذا الأمر موضعا للجدل في أوائل مايو/أيار الماضي عندما عقد السفير السعودي السابق لدى الولايات المتحدة «تركي الفيصل» واللواء الإسرائيلي المتقاعد «يعقوب عميدرور» لقاءا مفتوحا استضافه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. واتفق الجانبان على أن هناك صلة بين قضية فلسطين وعملية صياغة الشرق الأوسط الجديد، وهو ترتيب إقليمي يضع (إسرائيل) والدول العربية السنية وربما تركيا على محور تعاوني علني ضد إيران. جاء الخلاف بين الرجلين بشأن الترتيبات. ففي حين يرى الطرف الإسرائيلي أن التعاون المباشر سوف يخلق الظروف المناسبة لإحراز تقدم بشأن القضية الإسرائيلية الفلسطينية، فإن نظيره السعودي قد تمسك بالترتيب العكسي.
ومن المثير للاهتمام أنه عند تحول الحديث نحو إعادة النظر في من هو المسؤول عن فشل عملية السلام، فقد توجه المحاور، «روبرت ستالوف»، إلى «الفيصل» بسؤال حول: «إلى أي مدى يحتاج الفلسطينيون إلى غطاء عربي من أجل تقديم التنازلات العميقة التي سوف يكون عليهم الوفاء بها؟».
ولكن في واقع الأمر، ليس الفلسطينيون هم الذين يحتاجون إلى غطاء عربي من أجل عقد صفقة مع (إسرائيل)، ولكن العرب هم الذين يحتاجون إلى غطاء من الفلسطينيين من أجل الدخول في الشرق الأوسط الجديد الذي يشمل تعاونا علنيا مع (إسرائيل).
تبقى طريقة النظر إلى (إسرائيل) واحدة تقريبا في جميع أنحاء العالم العربي. في أحدث استطلاع للرأي، قال 85% من المشاركين في الاستطلاع العربي الأكبر من نوعه إنهم يعارضون اعتراف بلادهم بـ(إسرائيل). 67% من السكان العرب يرون أن (إسرائيل) أو الولايات المتحدة تشكلان التهديد الأكبر للأمن القومي العربي. 10% من المستطلعين رأوا أن التهديد الأكبر قادم من إيران. ومن المثير للاهتمام، عندما سئل المستطلعون العرب عن رأيهم في الصفقة النووية مع إيران فقد أعرب 40% من العالم العربي ذي الأغلبية السنية عن تأييدهم لها في حين عارضها 32% بينما امتنع 27% عن إبداء موقف محدد. وقد رأت نفس العينية أن إيران سوف تكون هي المستفيد الرئيسي من الصفقة بنسبة 32% في مقابل 31% للولايات المتحدة و15% لـ(إسرائيل) و8% للدول العربية السنية.
هذا يشير بقوة إلى أن الرأي العام العربي لا ينظر إلى السباق الدائر في الشرق الأوسط على أنه لعبة صفرية بين الرياض وطهران، حتى لو كانت بعض الأنظمة تنظر إليه كذلك. لذلك، إذا كانت الدول العربية السنية تسعى إلى إنشاء تحالف إقليمي يضم (إسرائيل) في مواجهة إيران، فإنها بذلك سوف تضع نفسها في موقف في مواجهة مواطنيها في وقت تتزايد فيه التحديات الاقتصادية ويتنامى فيه الاستياء العام.
(إسرائيل) لن تضحي بالاحتلال لأجل السعودية
إذا كانت الدول العربية السنية تظن أن لها شريكا داخل (إسرائيل) من أجل دفع هذا التعاون إلى الأمام، كما قد توحي المناقشة بين «الفيصل» و«عميدور»، فإنها سوف تكون مخطئة بشكل كبير. وقعت أحد المؤشرات العامة على ذلك في أواخر مايو/أيار حيث قامت الحكومة الإسرائيلية بخلط أوراق اللعب.
في ذلك التوقيت كان رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» يخوض محادثات مع زعيم المعارضة «إسحاق هرتسوغ »من أجل جلبه إلى الائتلاف الحاكم. كان هذا العرض يضمن جلب «هرتسوغ» في منصب وزير الخارجية وتغيير صورة الحكومة اليمينية لتصبح أكثر جاذبية من وجهة نظر المجتمع الدولي. وكانت الفكرة أن ذلك سيفتح الباب أمام استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، الأمر الذي بدوره، سوف يقدم الغطاء السياسي للدول العربية الراغبة في التعاون مع (إسرائيل) لفعل ذلك بشكل أكثر صراحة.
وقد تم دعم المحادثات بين «نتنياهو» و«هريستوغ» من قبل العديد من اللاعبين الدوليين بمن في ذلك مبعوث الرباعية السابق «توني بلير»، كما أنها تمت بتنسيق واضح مع واشنطن. خلال مراحل لاحقة من المحادثات، ألقى الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي» على ما يبدو تصريحات مرتجلة وتصالحية في مؤتمر البنية التحتية في مصر الأسبوع الماضي حيث تحدث عن «سلام دافيء» مع (إسرائيل) في حال كان من الممكن التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين. كما أعرب عن كون مصر مسعدة للعب دور من أجل أن تدفع هذه العملية قدما. كما دعا القادة الإسرائيليين إلى السماح ببث كلمته إلى الجمهور الإسرائيلي.
كان «نتنياهو» «وهرتسوغ» سريعين في الترحيب بهذه التصريحات في نفس اليوم. وكان كال من «ديفيد ماكوفسكي»، وكذلك «روبرت ساتلوف»، الذي أدار النقاش بين «فيصل» و«عميدرور»، من معهد واشنطن سريعين في إبداء ترحيبهما بالمبادرة على «تويتر». ولكن في الوقت الذي بدا فيه أن جميع القطع تصطف في أماكنها الصحيحة، فقد بدا أن هناك تراجع مفاجئ. تخلى «نتنياهو» فجأة عن «هيرستوغ» وقام بتعيين المتشدد «أفيجدور ليبرمان» في منصب وزير الدفاع في حكومته، ليشكل بذلك الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ (إسرائيل).
أخدت هذه الخطوة العرب على حين غرة. «علينا أن نعترف أننا تلقينا صدمة حقيقية»، وفق ما نقلته صحيفة «إسرائيل ديلي» عن مسؤول مصري، والذي أضاف: «بدأنا مع هيرتسوغ وانتهى الأمر إلى ليبرمان».
لكن سلوك «نتنياهو» هنا يجب ألا يكون مفاجئا بالنسبة لأي شخص على دراية به. حيث لم تكن حياته السياسية أكثر من مجموعة من الحيل المتتالية. هذا الخلط في أوراق اللعب، الذي مثل صفعة على وجه المصريين وصفعة غير مباشرة إلى الدول العربية الأخرى، يجب أن يرسل إشارة واضحة إلى العالم العربي الراغب في مغازلة (إسرائيل) أملا في التحالف معها ضد إيران. .نعم، إيران هي مصدر قلق لـ(إسرائيل)، ولكنها لن ترقى أبدا إلى مستوى أولوية الموقف الداخلي مع الفلسطينيين.
التهديد الوجودي
بالنسبة إلى (إسرائيل)، فإن قضية الفلسطينيين تمثل تهديدا وجوديا على قدم المساواة، إن لم يكن أكبر، من ذلك الذي تمثله الجمهورية الإسلامية. إيران، في نظر (إسرائيل)، تشكل تحديا بسبب تحالفاتها الإقليمية وعلى وجه الخصوص بسبب دعمها لحزب الله، الذي ينشط على حدود (إسرائيل) وأثبت أنه خصم قادر على فرض تكاليف عليها. ولكن هذه التحديات الخارجية قد أثبتت أنها قابلة للردع. وفي حين يصعب ردع النهج غير التقليدي وغير المتماثل لحزب الله بالطرق التقليدية، فإنه يلجأ إلى هذا النهج على وجه التحديد بسبب فرق القوة الهائل بين (إسرائيل) وسائر الدول العربية الأخرى.
حتى إيران، وهي الدولة القومية ذات العدد الهائل من السكان، ليست في وضع يمكنها من تهديد (إسرائيل) بأي شكل من الأشكال التقليدية. وهي تفتقر إلى القدرة على إظهار قوتها على طول المسرح وعرضه نظرا لأن قواتها، وإن كانت أكثر من ناحية العدد، فإنها تعد سيئة التجهيز مقارنة بالجيش الإسرائيلي. وبطبيعة الحال، تحتفظ (إسرائيل) بقدرات نووية متطورة لضمان أنه حتى في حال إقدام إيران على خطوة غير منطقية بشن حرب تقليدية ضد (إسرائيل) فإنها سوف تكون محتفظة بأوراقها الرابحة.
ولكن الصراع بين (إسرائيل) والفلسطينيين له طبيعة مختلفة تماما. وهو ليس ذلك النوع من التحدي الذي يمكن ردعه عبر الطائرات أو الغواصات. بين النهر والبحر، وهي المنطقة التي تطبق فيها (إسرائيل) مزيجا من القانون المدني والعسكري، فإن هناك عدد متماثل من الفلسطينيين واليهود. يعيش الفلسطينيون إما تحت الاحتلال العسكري أو كمواطنين من الدرجة الثانية. وعلى الرغم من هذا الخليط السكاني فإن (إسرائيل) تدعي أنها تتمسك بهوية يهودية وديمقراطية. وقد تم الحفاظ على هذه المفارقة من خلال التظاهر بالمضي قدما في عملية السلام وأن الاحتلال هو أمر مؤقت وأن الدولة الفلسطينية على وشك الظهور. مع مضي الوقت، ومع مرور 50 عاما منذ بدء الاحتلال في عام 1967، فإن البيض الإسرائيلي والفلسطيني قد امتزج على نحو غير مسبوق، وأصبحت عملية الانفصال باهتة أكثر من أي وقت مضى.
فكرة أن (إسرائيل) حريصة على السلام هي فكرة تتكرر باضطراد، ولكن تحت الفحص الدقيق للمصالح الفعلية المعنية، فإن المرء يجد أن (إسرائيل) لها مصالح عالية جدا في الحفاظ على الاحتلال. اقتصاديا، (إسرائيل) تستفيد كثيرا من احتكار الأراضي والموارد في الضفة الغربية وكذلك السوق الحبيس والأيدي العاملة الرخيصة. وقد تم إنفاق مليارات الدولارات على تجهيز المستوطنات على مر السنين. وخلص تحقيق أجرته صحيفة «هآرتس» في عام 2003 أنه قد جرى إنفاق أكثر من 10 ملايين دولار على المستوطنات في حين أن تقدير حديث لأحد مراكز الأبحاث الاقتصادية الإسرائيلية قد قدر الرقم بحوالي 30 مليار دولار على مدار الـ40 عاما الماضية ما يؤكد تسارع وتيرة التكاليف خلال الـ13 عاما الماضية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن إزالة ذلك الجزء من المستوطنين اللازم إزالته لأجل إقامة الدولة الفلسطينية سوف يكلف الحكومة الإسرائيلية ما يقرب من 10% من الناتج المحلي الإجمالي كتكلفة لإعادة التوطين. خلال فترة عملية السلام، حين قامت (إسرائيل) بتسليم بعض أراضي الضفة لسيطرة السلطة الفلسطينية، فإنها قد حصلت على تمويل من قبل الأمريكيين والأوروبيين، حيث انخفض الإنفاق الدفاعي الإسرائيلي إلى الناتج القومي إلى النصف. وفي الواقع، فإن الإنفاق الدفاعي الإسرائيلي كنسبة إلى الناتج القومي يشهد أقل مستوياته تاريخيا وهو أمر جيد بالنسبة إلى دولة تشغل احتلالا عسكريا يبلغ أكثر من نصف حجمها على مدار عقود. خلاصة الأمر هنا هو أن الاحتلال يعد أمرا مربحا لـ(إسرائيل).
ولكن هذه ليست سوى بعض الحوافز الاقتصادية للاحتلال الدائم. سياسيا، يبدو الانسحاب واسع النطاق أمرا مستحيلا بالنظر إلى وضع السياسة الإسرائيلية اليوم. يهيمن اليمين على السياسة الإسرائيلية وهو يستعد لمواصلة القيام بذلك لسنوات قادمة. المستوطنون الإسرائيليون، الذين يملكون مصالح مباشرة في استمرار الاحتلال، إضافة إلى معارضتهم الأيديولوجية لإنهائه، يتمتعون بقوة متزايدة في السياسة الإسرائيلية. في بداية عملية السلام، كان المستوطنون يمثلون نسبة 5% فقط من المجتمع الإسرائيلي، في حين تقارب نسبتهم اليوم 10%. قد تبدو هذه نسبة تافهة إلا إذا أخذنا بالاعتبار أنها من بين الكتل الانتخابية الأكثر اتساقا أيديولوجيا في (إسرائيل) كما أن نسب إقبالها أعلى من نسب أي ديمغرافية أخرى في البلاد. كما أنهم يتمتعون بعدد كبير من الأحزاب ضمن النظام السياسي الإسرائيلي لذا فإنه من الصعب أن نتصور أن هناك ائتلافا غير يميني في (إسرائيل) لن يعتمد في استقراره على هذه المجموعة.
ونظرا لهذه الحوافز الاقتصادية والسياسية، يبق التساؤل عن السبب الذي قد يدفع قادة إسرائيل نحو الانسحاب. بالنسبة لـ(إسرائيل)، فإنها على استعداد للتعامل مع أي من التحديات التي تمثلها إيران أكثر من استعدادها للتعامل مع الثقب الجغرافي والديمغرافي الذي حفرته خلال السبعين عاما الماضية.
في ضوء ذلك، فقد اعتمدت سياسة استخدام احتمالات السلام عبر المفاوضات التي لا تنتهي، من أجل تجنب الازدراء الدولي في الوقت الذي لا تستطيع فيه مواجهة أزمة داخلية تقترب من السطح. لهذه الأسباب، فإن (إسرائيل) قد تقوم بمغازلة الدول العربية السنية من وقت لآخر من أجل خلق مظهر خادع للتقدم، وربما حتى في إطار مبادرة السلام العربية. ومع ذلك فإنها لن تميل نحو اتخاذ خطوات فعلية للتوصل إلى اتفاق في ظل هذا الإطار، بغض النظر عن مدى الأرضية المشتركة التي قد تتشاركها مع الدول العربية السنية في معارضتها لطهران.
الأنظمة العربية التي تعتقد خلاف ذلك تخطيء حساباتها. كما أن مناورة «نتنياهو» الأخيرة ينبغي أن تضع حدا لأي شكوك حول هذا النهج.
معهد الشرق الأوسط- ترجمة وتحرير فتحي التريكي - الخليج الجديد-