سجلت زيارة “الوفد السعودي” العلنية الأخيرة إلى تل أبيب، فصلا آخر من العلاقات بين آل سعود وإسرائيل. الزيارة التي كشفتها صحيفة “هآرتس”، جاءت في سياق لقاءات علنية قام بها تركي الفيصل مع مسؤولين إسرائيليين في أوروبا، وبعد تقارير عديدة أكدت توثّق التعاون السعودي الإسرائيلي في الفترة الأخيرة. وكان اللافت أن هذا الصعود في العلاقات بين الطرفين؛ تقاطع مع السياسة الهجومية لآل سعود على ما يُعرَف بمحور المقاومة، والانحياز للمشروع الرامي إلى اعتبار المقاومات العربية “إرهابا”، وذلك على نحو الهجوم الذي مارسه السعوديون ضد حزب الله، وبشكل غير مسبوق، وهو ما أكّد المعلومات السابقة بشأن “التآمر” السعودي ضد الحزب ومقاومته، وخاصة خلال حرب تموز ٢٠٠٦م.
الموالون لآل سعود في الخليج وخارجه، التزموا الصمت إزاء التعاون الإسرائيلي السعودي، وهو صمتٌ ممنهج على قواعد اشتغل عليها آل سعود في السنوات القليلة الماضية، وقامت على أساس إحداث تغييرات جذرية في مفهوم العدو والصديق، وتوجيه العداوة إلى إيران وحزب الله، خاصة، باعتبارهما “العدو الحقيقي” للأمة، فيما جرى توظيف رجال الدين والفتاوى و”الأبحاث الإستراتيجية” مدفوعة الثمن، لترويج هذا المفهوم الجديد، وتعميمه على الرأي العام، وبضخٍّ هائل من الدعاية الإعلامية ووسائل التلاعب بالأذهان. وقد نجح هذا الجهد بدرجات ملموسة، حيث تراجع مفهوم “العدو الإسرائيلي” في الخطاب العام للعرب والمسلمين، في حين لم تعد لقضية الصراع مع الصهيانة أيّ تأثير أو حضور فاعل في السلوك السياسي أو العادي للأفراد والجماعات في المنطقة.
بعض الباحثين يضع العلاقة بين آل سعود وإسرائيل في سياق تاريخي يعود إلى قديم الزمان، حيث كان السعوديون على تواصل مستمر مع الصهاينة، وعلى ذات المسافة التي كانوا يعملون فيها لتأسيس كيانهم على أرض فلسطين، وهو أمر دفع البعض للمقاربة بين الأيديولوجية الوهابية لآل سعود والأيديولوجية الصهيونية، والوقوف عند أوجه التشابه بينهما. إلا أن السعوديين اختاروا، وقبل السنوات الأخيرة، أن يخفوا هذه العلاقة، ويكتفوا باللقاءات السرية التي كان بعضها على “أعلى المستويات”، حيث التقى الملك السعودي السابق، عبد الله، بالرئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز في نيويورك العام ٢٠٠٨م، وقد امتدحت وزارة الخارجية الأمريكية حينها هذا “اللقاء السري”، وصرح وزير الخارجية وليام بيرنز بهذا اللقاء، في حين تحدث بيريز عن اتفاقه مع الملك السعودي بعدم التصريح بالاجتماع المشترك.
مع دخول آل سعود المرحلة الجديدة من الصراع المفتوح مع المقاومة، وخاصة في السنوات الثلاث الماضية، جرى التمهيد للعلاقة مع الإسرائيليين من خلال لقاءات علنية جمعت بين الطرفين، وخاصة الأمير السعودي تركي الفيصل، الذي يحمل ملفات سرية من هذه العلاقات بحكم منصبه السابق سفيرا في واشنطن، وعمله في إدارة الاستخبارات السعودية. يؤكد متابعون بأن لقاءات الفيصل المتكررة بإسرائيليين، تم تنظيمها بشكل مدروس، ووفق خطة تأخد بالاعتبار تعبيد الطريق لنقل العلاقات بين الجانبين إلى المستوى العلني، وبالتعويل على نجاحهما في كسر علاقة جمهور العرب بالمقاومة، وبعد شيطنة الأخيرة في الوجدان العام، وتحويلها إلى “عدو مشترك” ينبغي تكريس الطاقات والخطابات لمواجهته.
زيارة اللواء السعودي أنور عشقي إلى إسرائيل، وعلى رأس وفد سعودي، تضع العلاقات السعودية الإسرائيلية على سكة جديدة من التقدم، وثمة خشية أن تكون “إشعارا” بنضج “التحالف الإستراتيجي” بين أكثر الأيديولوجيات التدميريّة في العصر الراهن، ما يُنذر بمرحلة عصيبة على المنطقة ككل. عشقي التقى قبل ذلك مع إسرائيليين، واخترق “الحاجز النفسي” وأجرى لقاءات سابقة مع وسائل إعلام إسرائيلية، وتولّى إيصال الرؤية السعودية بشأن “الرغبة في السلام مع إسرائيل”، وعبّر أكثر من مرة عن “الأطروحة” السعودية التي ترى أن هناك “مصالح مشتركة (بين الطرفين)” وخاصة على صعيد “سهولة تحديد أعداء مشتركين”، كما لم يترك عشقي فرصة دون التأكيد على أن عهد الملك الحالي، سلمان، من الممكن أن يكون “الظرف التاريخي” الأنسب “لإنجاز السلام مع إسرائيل”.
اللافت أيضا أن عشقي، وفي زيارته الأخيرة للقدس المحتلة، التقى بمدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلي، دوري غولد، ومسؤول أمني إسرائيلي (في الضفة الغربية المحتلة) والجنرال عومر بارليف، الذي قاد وحدة “سييرتمتكال” المختصة بتنفيذ عمليات اغتيال في قلب الدول العربية، علما أن غولد هو موكل من جانب إسرائيل بمهمة تعزيز العلاقات بين الجانبين، وأجرى تفاهمات بهذا الخصوص مع تركي الفيصل في لقاءاته معه، وهو ما حمل بعض المراقبين على وضع زيارة عشقي في إطار بدء انتقال العلاقات إلى مرحلة “جديدة”، وخاصة بعد الصفقة المصرية السعودية قبل أشهر بإعادة جزيرتي صنافير وتيران إلى السعودية، والذي يعني دخول قنوات الاتصال الأمني بين آل سعود وإسرائيل “مرحلته الأمنية”، وهو ما أكدته مصادر إعلامية في حينه حين تحدثت عن تدريبات مشتركة لضباط البحرية السعودية والإسرائيلية في البحر الأحمر.
المواطنون في السعودية والخليج لم يخفوا امتعاضهم من هذه العلاقات، ولكن ردود الأفعال تظل “متواضعة” و”خجولة”، كما أنها مقيّدة بالبيئة الحاضنة التي وفّرها آل سعود للغزل مع إسرائيل، تحت غطاء مواجهة “الخطر الصفوي”، فضلا عن الإجراءات العملية التي شرعنت اللقاء والتعاون مع الإسرائيليين، وهي إجراءات أقدم عليها أكثر من نظام خليجي، وخاصة النظام الخليفي والنظام في الإمارات وقطر. إلا أن الأكثر خطورة من ذلك، هو الموقف “الفتوائي” غير المستبَعد والمؤيد للعلاقة مع إسرائيل، والذي ينتظر آل سعود الوقت المناسب لإظهاره على أوسع نطاق، مع الإشارة إلى أن المفتي السابق، الشيخ عبد العزيز بن باز، أفتى بجواز الصلح مع “اليهود”، ما يعني أن “الطريق للطبيع ممهدة دينيا، من باب فقه الضرورة”، بحسب الأكاديمية مضاوي الرشيد، والتي تذهب إلى أن النظام السعودي الآن “لا يهمه فتاوى قديمة، لأنه قزم الدين والمتكلمين باسمه، ويتصرف سياسيا”، وأكدت بأن الزيارة التي قام بها عشقي لإسرائيل “ليست تصرفا شخصيا”، وقالت بأنه من “الغباء” الاعتقاد بأن الزيارة “مبادرة شخصية”، وأضافت “لو أنك أسّست جمعية خيرية بدون موافقة (ولي الأمر)؛ اعتقلوك، فما بالك بمن يذهب لإسرائيل”.
البحرين اليوم -