في الزمن الذي يزداد فيه شمل هذه الأمة تمزقا يوما بعد يوم، وتنتقل فيه بنادق البعض ممن قدموا أنفسهم كمناضلين، وفي غفلة من الحياء، من كتف لأخرى ليلتبس عليهم مفهوم المقاومة من تحرير فلسطين إلى ذبح الأهل على المذهب في أرياف حلب، وجوار قبر ابن الوليد في حمص، حيث يكون قتل الشقيق أسمى غايات النضال، وأنبل درجات المقاومة!.
في الزمن الذي يتذابح فيه العراقيون والسوريون واللبنانيون واليمانيون والليبيون فيما بينهم، وتتورم بينهم الأحقاد إلى أن يكون دم كل طرف في نظر الطرف الآخر أرخص من دم بعوضة. في الزمن الذي تتصاعد فيه بورصة الولاء الفارسي بفعل التومان السخي على حساب ثوابت العروبة وقيمها وشرفها، ويرث الخمينيون الأمويين في قلب دمشق، ويتعجمُ فيه لسان بغداد. في الزمن الذي تتوارى فيه العروبة خلف الشادور، فقط لأن هنالك من لا يريد أن يراها سافرة بهويتها التي خلقها الله عليها، لا خوفا عليها من الفتنة، وإنما خوفا من أن تتلبس من جديد وجدان هذه الأمة بعد أن غادرت ذاكرتها بفعل النكبات، والاستسلام لحمى التذابح على الطائفة، وعلى المذهب.
في هذا الزمن الرمادي «الأغبر» الذي ارتفعت فيه أعاصير الخلافات والاحترابات البينية، وتوارت فيه -للأسف- مفردة العدو الصهيوني من نشرات الأخبار، في هذا الزمن الملتبس بكل ما هو ذليل، حتما لن يجد «أنور عشقي» ما يردعه عن الخروج عن النص ليعطي الذريعة وعلى طبق من عبث للعدو، ولغوغاء الأمة ممن يتربصون بنا، ويحلمون أن يشاهدونا في صف قطيع التطبيع، ليرفعوا عقائرهم كيفما اتسعت تشفيا وشماتة. لن يجد عشقي في مثل هذه الظروف المعتمة ما يثنيه عن تشويه موقف هذا الوطن الرافض لكل ألوان الإذعان لدعوات التطبيع أو القبول بالتفاوض مع الإسرائيلي ما لم يُعِد للعرب أراضيهم المسلوبة، ويعترف بالحق الفلسطيني كاملا غير منقوص بقيام دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، ويقبل بحق العودة لكل الفلسطينيين، ويوقف سرطان الاستيطان.
عشقي، يعرف بالتأكيد قبل مغامرته تلك، أن هذا هو أدنى سقوف الأمة، ويعرف أنها لن تقبل بأن يكون هذا السقف أرضا لعدوها، ويعرف قبل هذا أن الدم الذي يجري في عروق هذا الشعب بالتحديد لا يزال ينضح عروبة خالصة، ولن يتحول بالنتيجة بنزوة عشقي أو غيره إلى مياه معبأة ومعالجة بالإذعان، لتكون سائغة للشرب لحبيبه نتنياهو، لكن يبدو أن «الجنرال» أو «المحلل الإستراتيجي» كما يحب أن يقدم نفسه والذي نفخته إسرائيل كبالون بأفخم الألقاب، وبما يُلائم غرضها منه، لم يستوعب في سياق بحثه عن نشوة الشهرة ببضاعته المزجاة أنهم استخدموه كطعم لدعايتهم الرخيصة، وربما توهم في ظل اطفاء الجبهات مع إسرائيل بفعل خيانات البعض، وتخاذل البعض الآخر، وهدميات الربيع العربي أن الشعوب العربية قد غسلت أيديها من فلسطين، ليرتكب حماقته الأنكى التي لم تصبه بمفرده، وإنما أصابت وأساءت لموقف هذا الشعب العروبي الذي لن تفلح لا إسرائيل ولا كل من يقف خلفها أن يفتحوا فيه أي ثغرة أو يُزحزحوه عن ثباته، حتى ولو ذهب إليها عشقي وكل «عشاق» التطبيع من كافة أرجاء الأرض.
فهد السلمان- اليوم السعودية-