سعيد الشهابي- القدس العربي-
لم يشهد الكيان الاسرائيلي «فترة نقاهة» كالسنوات التي اعقبت قمع ثورات الربيع العربي، فما حدث في هذه الفترة كان عكس ما كانت الجماهير العربية تتطلع له عندما حركتها النيران التي اشتعلت في جسد الشاب التونسي، محمد بوعزيزي. سبعة اعوام عجاف ستسجل بانها الأسوأ في التاريخ المعاصر لهذه الامة، ولعل الله يحدث بعد ذلك امرا.
فليس مستبعدا ان تشهد الفترة المقبلة عودة للروح التي خرجت بها الجماهير العربية هاتفة بالحرية وباحثة عن التغيير. البعض يقول ان تلك الثورات كانت من تدبير اجنبي، ولكن يصعب تقديم الدليل على ذلك. الامر الذي يمكن التدليل عليه ان اساليب قمعها المستمرة حتى الآن وما أعقبها من تغيرات سواء في المزاج العام ام التحالفات الاقليمية تؤكد وجود أيد معادية لهذه الشعوب خططت لما حل بها، وما تزال تفعل.
المشروع الاسرائيلي للمنطقة تتضح معالمه يوما بعد آخر، وتشير المعطيات إلى تخطيطه الذي يتواصل ليس في الشرق الاوسط فحسب بل في العالم الغربي كذلك. وما لم يتم استيعاب اولا حقيقة وجود ذلك المخطط وثانيا بعض تفصيلاته الفنية وثالثا سعة اهدافه ومجالات تدخله، سوف يتواصل الانحدار والتداعي.
هذا المخطط ساهمت في تفعيله امور عديدة: أولها دعم قوى الثورة المضادة ثانيها، توفر اموال هائلة لتفعيله، ثالثها: تعاون انظمة القمع العربية مع خططه بفاعلية، رابعها توفر غطاء غربي فضفاض مع دعم لوجستي واسع.
هذا ليس كلاما مستوحى من الخيال او امتدادا لنظرية المؤامرة او تعبيرا عن حالة يأس او ضعف، بل ان هناك من الوقائع ما يؤكد ذلك. وما يمارسه بعض الحكام من قمع ممنهج قد لا يكون جديدا، ولكن الجديد ان لا تكون هناك ردة فعل من اي طرف يفترض ان يكون معنيا بذلك: الشعوب المستهدفة بذلك القمع، المجتمع الدولي الذي يفترض ان يمارس شيئا من الرقابة الدولية لمنع قمع الشعوب واضطهادها، أو النخب السياسية والمثقفة سواء في المجتمعات العربية ام الغربية.
يضاف إلى ذلك وجود عوامل اخرى تتضافر مع هذه الحقائق، من بينها ما يجري هذه الايام من محاولات لتصفية القضية الفلسطينية وطرح حلول تفرض على الشعب الفلسطيني بالقهر والاجبار بعد حصاره وتجويعه. فمقولة اقامة الدولة الفلسطينية بموازاة الكيان الاسرائيلي وتظاهر بعض الانظمة العربية بالحماس لذلك المشروع انما هو جانب من سياسات التخدير التي يتضمنها المشروع الصهيوني في المنطقة. فهذا الطرح يقابله اصرار اسرائيلي على رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة، وكذلك تهويد القدس بنمط غير مسبوق، بالاضافة للقتل المتواصل للشباب الفلسطيني.
وسواء كانت هذه الفرضية مقبولة ام موضع اعتراض من قبل البعض، فثمة من يقول ان الاسرائيليين في السنوات السبع الاخيرة دخلوا على الوضع العربي من اوسع ابوابه. وبدلا من حصر اهتمام اجهزة الاستخبارات والامن الاسرائيلية بحدود فلسطين المحتلة توسعت اهتماماتها لتصل إلى عمق الاوضاع العربية خصوصا على مستوى التحالفات البينية ام على صعيد التصدي لقوى التحرر الوطني الساعية لضمان حقوق الشعوب وانهاء حالة الاستبداد والقمع المهيمنة على المنطقة منذ عقود.
فحين لا يسعى السعوديون لاخفاء اتصالاتهم بالحكومة الاسرائيلية وتبادل الزيارات، وحين يدعو حاكم مثل ملك البحرين لانهاء المقاطعة العربية، وحين يتم تبادل الرسائل والاتصالات بين الإمارات والمسؤولين الاسرائيليين حول استخدام انظمة صواريخ «القبة الحديدية» في دول الخليج لمواجهة الصواريخ الإيرانية فان الامر يكون قد تجاوز حدود اللباقة او الشعور بالانتماء للامة التي ما برحت ترفض الاحتلال او التطبيع معه.
المشروع الصهيوني لاعادة توجيه البوصلة في العالم العربي بعيدا عن قضايا الحريات والحقوق والتحولات الديمقراطية وانهاء الاستبداد وتحرير الاراضي يتم تطبيقه بمنهجية مؤسسة على دراسات وقراءات للاوضاع العربية، واساليب التأثير على الرأي العام بعيدا عن تلك القضايا. ويمكن تحديد بعض معالم هذا المشروع بالنقاط التالية:
أولا: دعم انظمة الحكم الحالية وحمايتها من الثورات الشعبية والحركات المعارضة. هذا الدعم سياسي يهدف لضمان دعم التحالف الانكلو -أمريكي لهذه الانظمة، وامني بتزويدها بالخبرات الامنية المستفادة من تجربة التصدي لانتفاضات الحجارة الفلسطينية، لتمكينها من السيطرة على الحركات المعارضة. ويلاحظ ان وسائل التعاطي مع النشطاء تغيرت كثيرا في السنوات الاخيرة، فاصبحت اكثر شراسة ولكن اكثر سرية وبعدا عن الانظار. فالسجون في البلدان العربية توسعت كثيرا، وازدادت اعداد عناصر الامن وتنوعت اساليبها. وفي الوقت نفسه استطاعت مجموعات الضغط والشركات العامة الغربية اقدر على تشجيع سياسات التعتيم الاعلامية والتأثير على الحكومات الغربية لمنع تعاطيها بشكل جاد ومسؤول مع الانتهاكات التي تفاقمت بمعدلات غير مسبوقة. فيصبح نظام مصر العسكري قادرا على التنكيل الوحشي بالمعارضين خصوصا رموز الاخوان المسلمين وكوادرهم بدون ان يذرف «العالم الحر» دمعة واحدة على حقوق الانسان المنتهكة.
ثانيا: إن إثارة الخلافات لا ينحصر على ما هو سياسي منها، بل ان التباين المذهبي واحد من الامور التي يهدف المشروع الاسرائيلي لاثارته، وقد اثبت فاعليته في تشتيت كلمة الامة وتناحر بعض فئاتها. ومع ان اثارة الخلافات المذهبية قد استنفدت اغراضها خصوصا بعد ان سعت السعودية لتحسين علاقاتها مع العراق، الا ان آثاره السلبية ستبقى في الاجواء لتحول دون اي تقارب حقيقي ورأب للصدع لمنع تبلور جبهة معارضة حقيقية للاستبداد والاحتلال معا. وبموازاة اثارة الخلافات المذهبية، عمد المشروع الصهيوني لشيطنة المجموعات التي يتضمن منهجها التصدي للاحتلال ورفض التطبيع معه. فقد استهدف الاخوان المسلمون سياسيا وامنيا واقتصاديا ودينيا، واستفاد المشروع من علماء السلطان للتهجم على الجماعة وشيطنتها واستهداف رموزها المعتقلين لدى النظام العسكري المصري باحكام الاعدام والسجن المؤبد. وبلغ الامر ان مرشدها السابق، الاستاذ المرحوم محمد مهدي عاكف، حرم من العلاج المناسب من مرض السرطان بعد ان رفض استعطاف السيسي، وبعد وفاته منع تشييعه الا في نطاق ضيق جدا. وهكذا الامر مع حزب الله وحماس وبقية فصائل المقاومة التي ترفض الاعتراف بـ «اسرائيل» او التطبيع معها.
ثالثا: المشروع الصهيوني اصبح يتغلغل في صفوف المؤسسات الاسلامية في الغرب بشكل واضح. فتحت غطاء «محاربة التطرف» و تشجيع «حوار الاديان» و «محاربة معاداة السامية» تمارس ضغوط كبيرة على هذه المؤسسات لتوسيع دائرة الحوار ليشمل في بعض مفاصله، المجموعات الصهيونية. وتشمل الضغوط المؤسسات الاسلامية قاطبة (سنية وشيعية). ومع ان الحوار مع اليهود امر مشروع ومطلوب، الا انه تحول إلى محاولة لمنع اي انتقاد للحكومة الاسرائيلية. واصبح في حكم المقبول اعتبار اي نقد للكيان الاسرائيلي «معاداة للسامية». وكان المشروع الصهيوني قد شجع بعض الفلسطينيين على الانخراط في صفوف المجموعات الإرهابية لابعادهم عن الاراضي المحتلة، الامر الذي اضعف وهج الثورة الفلسطينية وربط بعض فصائلها بالإرهاب. هذه الحقيقة شجعت بعض المؤسسات الاسلامية الغربية على التراجع عن دعم القضية الفلسطينية والتجاوب مع محاولات التطبيع مع المشروع الصهيوني تحت ذريعة «حوار الاديان». انها خطة متداخلة ساهمت في توسيع التغلغل الاسرائيلي في اوساط المؤسسات الاسلامية، ومنها إلى بعض الحركات السياسية في المنطقة.
رابعا: المشروع الصهيوني يسعى لتفتيت الدول العربية والاسلامية الكبرى إلى دويلات وكيانات صغيرة. وجاء استفتاء كردستان العراق الشهر الماضي كخطوة على طريق تفتيت العراق، ثم سوريا وإيران وربما مصر والسعودية نفسها. وقد ركزت «اسرائيل» على المنطقة الكردية العراقية منذ عقود، ودربت مقاتليها ووجهت سياساتها نحو الانفصال. وتتم مساومة العراق بين الانصياع لأمريكا والسماح لها ببناء قواعد عملاقة او تفتيت العراق.
ان المشروع الصهيوني يخطط لتمزيق الأمة لإضعافها. ويقابل ذلك موقف باهت من الانظمة والشعوب على حد السواء. ويعتقد الاسرائيليون بضرورة فرض نسخة جديدة من «سايكس بيكو» و «وعد بلفور» لكي تنعم بالامن وتتلاشى قدرات العرب والمسلمين امامهم. هذه بعض معالم المشروع الصهيوني، فما العمل؟