محمد المنشاوي- الشروق المصرية-
جاء إعلان الرئيس دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبدء إجراءات نقل السفارة الأمريكية للمدينة المقدسة، وما تبعه من ردود أفعال عربية رسمية هزيلة لتعكس واقعا جديدا ارتأته قيادات عربية لم تعد تكترث بفلسطين ولا بحقوق الشعب الفلسطينى.
وتضحى هذه القيادات بحقوق الفلسطينيين الطبيعية والمقبولة عالميا، توهما بأن ذلك هو السبيل الأقصر والمباشر لنيل الرضاء الأمريكى والإسرائيلى معا خدمة لأهداف ضيقة لا تراعى أى مصالح استراتيجية لشعوبهم أو لمستقبل حكمهم.
وتوفر العاصمة الأمريكية موقعا مثاليا كبوابة لأنشطة وفاعليات ولقاءات بين المهرولين للتطبيع مع إسرائيل، أو حتى لهؤلاء الساعين لنيل البركة الإسرائيلية لتحسن علاقاتهم بواشنطن.
وبعدما كان بعض العرب يسعون للدخول فى أنشطة تطبيعية والتى أطلق عليها قبل سنوات مرحلة «التطبيع بلا مقابل»، لمواجهة أوهام وجود أخطار مشتركة، لنصل اليوم لمرحلة أخرى أكثر قتامة أطلق عليها «استجداء التطبيع»، حتى لو كان الثمن تجاهل الشعب الفلسطينى وحقوقه الأساسية وكرامة ورغبات شعوبهم.
فى واشنطن لم يعد حدث أو خبر وجود فاعليات علنية، إضافة للسرية، تجمع مسئولين إسرائيليين بنظرائهم العرب ممن لا تقيم دولهم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل فى أروقة العاصمة الأمريكية. وتعد مراكز الأبحاث الأمريكية منصات مثالية لاستضافة هذه الفاعليات تحت دعاوى ندوات ومؤتمرات وحلقات نقاشية.
وشهد مجلس العلاقات الخارجية قبل عام اجتماعا بين اللواء السعودى «أنور عشقى»، الذى يرأس حاليا مركز «الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية» بمدينة جدة، والمدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية «دوري جولد».
بعد ذلك شهد معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، والمعروف بقربه الشديد من دوائر اللوبى اليهودي، جلسة علنية جمعت بين الأمير «تركى الفيصل»، رئيس المخابرات السعودى الأسبق، و«يعقوب عميدور» مستشار الأمن القومى الإسرائيلى الأسبق.
وتحدث السعوديون عن مشكلات الشرق الأوسط وعن ضرورة دمج إسرائيل فى منظومة مواجهة التحديات المشتركة مثل خطر الإرهاب والخطر الإيرانى.
ومنذ أيام عقدت أعمال منتدى سابان للعلاقات الإسرائيلية الأمريكية، وهي مبادرة من معهد بروكينغز ببحث فى العلاقات بين الحليفين، وشهدت مشاركة سفير دولة الإمارات يوسف العتيبة فى بعض الجلسات مع مسئولين إسرائيليين أمنيين كبار.
وفى واشنطن يتم الاحتفاء بالكتاب العرب ممن يدعمون السلام غير المشروط مع إسرائيل متجاهلين الحقوق الفلسطينية والعربية. وأخيرا أسست محطة الحرة التليفزيونية (ينفق عليها الكونغرس الأمريكى) بابًا جديدًا لمقالات الرأى يكتب فيها أغلبية من كتاب عرب، ويتم الاحتفاء بكتاباتهم التى لا تخرج عن النص المحدد لخدمة أهداف استراتيجية طويلة الأمد.
أما من يستطيع الكتابة باللغة الإنجليزية ويدعم التطبيع أو يمتدح إقدام الرئيس ترامب على نقل السفارة للقدس، ويعلن حبه للسلام والتسامح مع الآخر، فيتم تسهيل نشر مقالاته أو مقالاتها فى صحف مثل وول ستريت جورنال أو واشنطن تايمز وغيرهم.
فى واشنطن لا تتوقف التقارير الصحفية أخيرا عن كشف هرولة بعض القادة العرب تجاه إسرائيل وعدم اكتراث بعضهم بأهمية ورمزية مدينة القدس، ولا ببقية حقوق الفلسطينيين.
خلاصة هذه التقارير أن حكاما عربا تحدثوا للمسئولين الأمريكيين عن ضرورة استغلال واشنطن لحالة الضعف العربى غير المسبوق، والانقسام والتشتت الفلسطينى من أجل إنهاء وتصفية قضية فلسطين من خلال ما يعرف بـ«صفقة القرن».
ويؤمن هؤلاء الحكام بأن العرب، حكومات وشعوبا، مشغولون بدرجة كبيرة بشئونهم الداخلية الضيقة سواء كانت تلك تبعات للربيع العربى الذى تم إفشاله، أو تبعات ظهور وتمدد التنظيمات الإرهابية، وهو ما سمح بتلاشى الاهتمام الشعبى والحكومى الرسمى بالشأن الفلسطينى.
وطبقا لهذه التقارير فقد وعد قادة الدول العربية المعتدلة، خاصة الغنية منها، بالضغط على الفلسطينيين للقبول بدولة تقدمها وتعرفها وتصمم حدودها إسرائيل وتخلو من القدس ومن وحدة مناطق الضفة الغربية، مع بقاء المستوطنات ونسيان حق العودة.
ومن واشنطن تخرج توصيات وقرارات تضغط فى اتجاه تغيير المناهج التعليمية فى الدول العربية. تبنى الكونغرس الأسبوع الماضى مشروع قانون يوجب على وزير الخارجية تقديم تقرير سنوى إلى لجنتى الشئون الخارجية فى مجلسى النواب والشيوخ عن جهود السعودية فى إصلاح مناهجها الدينية وإزالة الفقرات التحريضية وتلك التى تشجع على العنف تجاه المختلفين دينيا والعقائد التى تختلف مع التفسير الرسمى الوسطى للإسلام.
ويقصد بهذه الخطوات بصورة غير مباشرة إبراز قيم التعايش مع الآخرين وتبنى المزيد من التسامح معهم، وهو مقصد نبيل بالطبع إلا إذا كان يحمل معه أهداف مغايرة لدفع طلاب المدارس السعودية على النظر بإيجابية للسياسات الإسرائيلية وتجاهل الحقوق المسلوبة للفلسطينيين والعرب والمسلمين تحت ذريعة التسامح والعيش المشترك.
وفي واشنطن أيضا تقوم الكثير من وسائل الإعلام العربية المتواجدة بواشنطن (المكتوب منها والمرئي) بدور مشبوه من خلال تزايد استضافة كتاب ومحللين أمريكيين ممن يروجون لأفكار ضرورة القبول بسيادة إسرائيلية كاملة على القدس كعاصمة أبدية وموحدة للشعب اليهودي.
ولا يتم استضافة الكثير من خبراء واشنطن المتوازنين والمحايدين تجاه الصراع العربي الإسرائيلي ممن يؤمنون بحل الدولتين وأن القدس الشرقية تعد عاصمة لدولة فلسطين.
بمجرد إعلان ترامب قرار نقل السفارة للقدس، يمكن رصد جهود اللوبى الصهيونى الذى يتشكل مع عشرات ومئات المنظمات والشبكات المؤثرة على عملية صنع القرار الأمريكى فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط.
وظهرت مذكرات قصيرة تشمل نقاط قليلة للرد على أى أسئلة وللهجوم على المعارضين فى وسائل الإعلام الأمريكية والدولية.
أول هذه النقاط يرتبط «بالحقوق التاريخية لليهود فى القدس».
والثانية تتعلق «بموافقات ضمنية عربية على قرار ترامب».
ثالثها أن «الأهم هو توقف الفلسطينيين عن تبنى العنف والإرهاب، وضرورة إدانة التحريض ضد إسرائيل».
رابع هذه النقاط يذكر أن معسكر الاعتدال والتحالف العربى الإسرائيلى يجب أن تدعمه واشنطن كى ينتصر على الأعداء المشتركين.
وترى تلك المنظمات أن هذا المعسكر يضم المغرب والأردن ومصر والسعودية والإمارات والبحرين والكويت، إضافة إلى إسرائيل، ومن هنا يطالبون دوائر واشنطن بدعم هذا المعسكر الذى يضمن المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط.
فى النهاية قد يستطيع حكام العرب إهمال ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية!
لكنهم لن ينجحوا فى استراتيجية إقناع شعوبهم أن «الاحتلال ليس هو أصل القضية» طالما بقى هناك شعب فلسطينى يقاوم فى سبيل حريته وحقوقه.