طلال سلمان- السفير العربي-
تتوالى اعترافات الدول العربية بالكيان الصهيوني، مجاناً، بينما هذا الكيان لا يعترف بفلسطين وطناً لأهلها، كان عبر التاريخ وطنهم وسيبقى دائماً وطنهم.
الاعتراف الاسرائيلي بالسلطة الفلسطينية تحت الهيمنة الاسرائيلية المطلقة، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، لا يعني اعترافاً بفلسطين وحق شعبها فيها ليقيم عليها دولته الحرة المستقلة.
انه اعتراف مؤقت بتدبير مؤقت، فرضته الظروف ـ عربياً ودولياً ـ على الكيان الصهيوني، وهو يفترض ويعمل على شطبه عن طريق ترسيخ الوجود الاستعماري لإسرائيل الجبارة، الاقوى من محيطها العربي جميعاً.. مع الاخذ بالاعتبار احتمالات تفسخ هذا المحيط، وتسابق دوله للاعتراف بكيان العدو قفزاً من فوق السلطة التي لا سلطة لها، فعلياً على أي شبر من فلسطين.
وبين الاعتراف العلني (كما حالة مصر والاردن) و”الاعتراف الواقعي” كما حالة بعض دول الخليج العربي، فضلاً عن المغرب بذريعة رعاياه من المغاربة يشكلون نسبة مهمة من سكان الكيان الاسرائيلي، ينكسر العداء العربي الطبيعي لهذا الكيان الذي اقيم بالقوة القاهرة على حساب اهل الارض، الذين كانوا اهلها على مر التاريخ، وسيبقون اهلها مهما طال زمن الاحتلال الاستيطاني.
تتويجاً لهذا القهر الاستعماري المتواصل على امتداد سبعين سنة ها هو الرئيس الاميركي القادم من حلبة المضاربات في البورصة، دونالد ترامب يقدم على ما تورع غيره من الرؤساء الاميركيين عن الإقدام عليه فيقرر الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، متحدياً من تبقى من امة العرب، والمجتمع الدولي الذي استنكر هذا التصرف الارعن ورفض مجاراته فيه.
ولقد كانت ردود الفعل العربية على هذا الاعتداء العلني على كرامة الامة وحقها في ارضها، باهتة، بل حقيرة: لم تقطع اية دولة عربية علاقتها بواشنطن. بل أن دولة واحدة لم تفكر بسحب سفيرها هناك ولو “للتشاور”.
وفي ما عدا مهرجان خطابي في جامعة الدول العربية التي فقدت دورها ومعنى وجودها، كان سيبقى فارغاً من المضمون، لولا خطاب وزير خارجية لبنان، لمر هذا العدوان الاميركي على كرامة الامة العربية وحقوقها في ارضها مرور الكرام.. حتى الدعوة إلى قمة عربية طارئة تعقد في وقت لاحق جاءت اشبه بنقاب يحاول تجار الهزيمة أن يستروا به وجوهم المجللة بالعار..
وحده شعب فلسطين جدد انتفاضته التي لم تتوقف يوما، وخرج شبابه وصباياه وكهولته والفتيان البواسل إلى الشوارع والميادين، يعلنون رفضهم العدوان الاميركي الجديد على حقوقهم في ارضهم، وبالذات على عاصمتهم التي كانت عاصمتهم عبر التاريخ، القدس الشريف..
سقط الشهداء والجرحى برصاص العدو الاسرائيلي، وامتلأت شوارع القدس وضواحيها بدماء الفتيان وصبايا الورد الممتلئة صدورهم بالإيمان بحقهم في ارضهم، والتي لن يتركوها حتى لو استشهدوا جميعاً فيها..
أما الدول العربية التي احرجها قرار الرئيس الاميركي، ترامب، فقد ادارت وجوهها إلى الجهة الاخرى، مؤكدة انها كانت “في جو” هذا القرار الهمايوني، ولم تفاجأ به.. لذا كانت ردود فعلها خجولة، هذا اذا ما افترضنا أن الثرثرات والبيانات البلا قيمة التي صدرت عن بعض العواصم العربية، يمكن ايرادها في سياق ردود الفعل على هذا العدوان الهمجي ترتكبه اقوى دولة في العالم بحق شعب عربي مستضعف انشغلت عنه قيادته بمظاهر السلطة، في حين انها بلا سلطة (الا كشرطة في خدمة العدو الاسرائيلي)..
وحدها قيادة المقاومة المسلحة في لبنان (حزب الله) اتخذت الموقف الصارم المعبر عن ارادة الامة.. رافعة سقف المقاومة، مطلقة نفير الجهاد من اجل فلسطين..
ولقد كان للعراق موقفه المتميز في اجتماع مجلس الجامعة العربية، بينما ما تزال سوريا “المطرودة” من هذه الجنة.. المحرمة على الوطنيين.
ما العمل، في ظل هذا الخواء السياسي العربي؟
ما العمل في ظل هذا التواطؤ العربي الرسمي على فلسطين، والذي تشارك فيه دول عربية عديدة، اضافة إلى السلطة التي لا سلطة لها ولا قرار، والتي “تذوب” فلسطين في ظل وجود “رئيسها” و”وزرائها” ببذلاتهم الانيقة، وربطات عنقهم غالية الثمن، وتصريحاتهم البلا معنى؟
من لفلسطين ينجدها، من خارج الاطر الرسمية، حكومات وسفارات وعلاقات حميمة مع الولايات المتحدة بإدارة ترامب، وعلاقات طيبة مع دولة العدو الاسرائيلي، تزورها الوفود الرسمية و”الشعبية” كما حكاية وفد البحرين الذي كان التقصد في جعله برئاسة معمم شيعي واضحاً بل نافراً.
لا نتحدث، هنا، عن العواطف، ولا عن المواقف المبدئية للشعب العربي على امتداد دنياه الواسعة، ما بين المحيط والخليج..
وانما نتحدث عن هذه الانظمة العاجزة التي تذل الشعوب العربية بحكمها الدكتاتوري والتي نسيت قضية فلسطين، بعدما تاجرت بها دهراً، حين كانت المتاجرة بفلسطين تحمل إلى “الشاطرين” من روادها المناصب الملكية والقيادية في اربع رياح الارض العربية..
المطلوب حراك شعبي واسع، على المستوى العربي، طالما أن لا أمل في الانظمة القائمة، والتي لم يعد بعضها يتورع عن المجاهرة بضرورة انهاء “هذا الصراع العبثي” والوصول إلى حل بل تسوية تحفظ للفلسطينيين الحد الادنى من الادنى من حقوقهم في وطنهم، الذي كان عبر التاريخ وطنهم..
المطلوب أن يرفع هذا المواطن العربي المقهور صوته، أن يملأ الشوارع باللا المقدسة، أن يهز كراسي الحكام المطمئنين إلى انهم قد قضوا على شعوبهم وحكموا عليها بالخرس والتسليم بالهزيمة وكأنها قدر لا راد له.
المطلوب أن تثبت هذه الامة حضورها الذي لطالما غير التاريخ..
المطلوب أن ترتفع صرخة “لا” للاحتلال الاسرائيلي! لا لاحتلال القدس! لا للتخاذل العربي، لا للخيانة العلنية، الا لبيع فلسطين، مرة أخرى، ومعها هذه المرة العديد من العواصم العربية.
ألم يتعب العرب من قول نعم، حاضر، بأمرك!
الم يتعبوا من طأطأة رؤوسهم امام من يحاولون شطبهم من التاريخ ومعه الجغرافيا؟!
الم تحن لحظة اطلاق “لا” المقدسة، ايذاناً ببدء تاريخ جديد لهذه الامة المضيعة في حاضرها عن ماضيها العتيد.. والاخطر عن مستقبلها الموعود!