قاسم حسين- البيت الخليجي-
مع أنه لم يكن اللقاء العلني الأول لزعيم عربي مع رئيس وزراء إسرائيلي، إلا أن استقبال سلطان عُمان قابوس بن سعيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مسقط، شكّل صدمةً قويةً للكثير من العرب والخليجيين، وفي مقدّمتهم العُمانيين.
هذه الزيارة المفاجِئة، التي استيقظ الجمهور على خبرها صبيحة يوم الجمعة 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2018م، ترافقت مع زيارة وفدين رياضيين لكلٍّ من قطر والإمارات، ما أعطى انطباعاً قوياً بأن قطار التطبيع يتحرّك بسرعةٍ باتجاه دول الخليج. وتزامُنُ الأحداث الثلاثة في يومٍ واحدٍ يفسّر حالة الذهول والإعتراض الشعبي على ما يجري، في ظلّ عدم وجود تمثيل حقيقي للشعوب، وعدم أخذ مواقفها أو حتى مشاعرها القومية في الاعتبار، مع تبعية وسائل الإعلام لوجهات النظر الرسمية والترويج لها مهما كانت التقلبات. ومع غلق منافذ التعبير المعتادة أمام الشعوب، إلا أنه من السهل معرفة مواقفها الحقيقية من خلال رصد وسائل التواصل الاجتماعي، الملجأ الأخير المتاح للتعبير عن سخطها تجاه تسارع خطوات التطبيع.
قطار التطبيع لم يبدأ بالأحداث الثلاثة الأخيرة، بل مرّ بعدّة محطات رئيسية، من كامب ديفيد إلى مدريد وأوسلو وشرم الشيخ، حتى وصل إلى محطة التطبيع الرياضي مؤخراً. وفي كلّ واحدةٍ من هذه المحطات، كان الوضع العربي يمرّ بأزمةٍ داخليةٍ أو خارجيةٍ كبرى، ويكون التطبيع هرباً إلى الأمام.
المحطة الأولى كانت مساء 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 1977م، مع زيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى القدس، التي كانت هزّةً شديدةً، أطاحت بالكثير من المسلمات القومية، وجاءت بعد أشهرٍ من المأزق الذي وجد النظام المصري نفسه يتخبط فيه، بعد تفجّر احتجاجات الشعب المصري يومي 17 و18 يناير، اعتراضاً على سياسات السادات الاقتصادية، والتي وصفها بـ”انتفاضة الحرامية”. اعتماداً على نظرية تقول بأن أساس مشاكل مصر هو تورّطها في النزاع مع إسرائيل، حيث دفعت دماً ومالاً كثيراً. ووعد السادات المصريين بأن السلام سيأتي بالرخاء الاقتصادي، وحدّد عام 1980 باعتباره “عام الرخاء”. لكن الرخاء لم يأتِ بعد ثلاثة أعوام، وإنّما ازدادت الآثار السلبية لسياسة الانفتاح الاقتصادي على عموم المصريين. وهرباً من مواجهة هذا الفشل لجأ النظام إلى ضرب منتقديه، وتوّج ذلك في سبتمبر/ أيلول 1981م، في ليلة القبض على جميع المعارضين، من مختلف التيارات السياسية والفكرية، بما فيهم البابا شنودة الزعيم الروحي للأقباط. وبعد شهرٍ واحد، سقط السادات صريعاً في حادثة المنصة على يد خالد الاسلامبولي في الاستعراض العسكري الذي يُقام سنوياً في ذكرى حرب أكتوبر.
التجربة المصرية في التطبيع لم تكن مشجّعةً، ففيما عدا استرجاع سيناء وفق الإتفاق، لم تكن هناك نتائج مثمرة، وقد اتخذت الدول العربية في قمة بغداد (1978) مواقف مناهضة للصلح المنفرد، وقرّرت نقل الجامعة العربية إلى تونس، ولم تقطع شعرة معاوية مع النظام، بل أرسلت وفداً يعرض على مصر 5 مليارات دولار للتخلّي عن الاتفاق، إلا أن السادات رفض حتى استقبال الوفد.
تدويخ المطبِّعين
في المحطة الثانية للتطبيع، استطاع الأميركيون جمع الزعماء العرب جميعاً مع الإسرائيليين في مدريد (أكتوبر 1991)، وذلك في أعقاب الكارثة التي تسبّب بها النظام العراقي باحتلاله للكويت في أغسطس 1990، ونجاح التحالف الدولي في طرده منها، وفرض شروط مذلة على نظام صدام حسين، خضع بموجبها العراق إلى حصار لمدة 13 عاماً انتهى باحتلاله في 2003. ولم يكن المراهنون على ركوب قطار السلام مع إسرائيل أسعد حظاً من السادات، فقد انتهى ياسر عرفات محاصَراً معزولاً، في مقرّه بمدينة رام الله، ومقاطَعاً من الزعماء العرب أيضاً، وانتهى بطريقةٍ غامضةٍ ترجّح تورّط الإسرائيليين في تسميمه والتخلص منه في نوفمبر 2004، بعد 14 عاماً من المفاوضات بلا نتيجة. كما انتهى خلفه محمود عباس إلى الطريق المسدود نفسه، حيث دار في الحلقة المفرغة نفسها 14 عاماً أخرى، ليجد نفسه مقاطَعاً معزولاً ومهدّداً بالزوال بعد الإعلان عن “صفقة القرن”.
في مذكراته “مشاوير العمر”، يقول حسن كمال علي (وزير دفاع وداخلية مصري ورئيس وزراء سابق)، الذي ترأس الوفد المصري المفاوض في “بلير هاوس” (1978): “حتى الأمور المنصوص عليها في إطار كامب ديفيد، كان الوفد الإسرائيلي يتهرّب من الموافقة عليها، حتى بدا وكأننا نجلس من جديد ولأول مرةٍ لبحث أمور سبق أن قُتلت بحثاً من قبل”. وهو الأسلوب الذي اتبعه الإسرائيليون مع عرفات، ومن بعده عباس. ولم يكن ذلك سراً يخفيه الإسرائيليون، بل كانوا يتفاخرون جهراً بأنهم سيتبعون أسلوب “تدويخ” الفلسطينيين لمدة عشرين عاماً، وبعدها سيكتشفون أنهم لم يحصلوا على شيء.
التطبيع مع النظام في مصر لم يُفلح في إحداث تطبيعٍ مع الشعب، سواءً رجل الشارع أو رجال النخبة والمثقفين، حتى في الفعاليات والأنشطة الفنية، بقي هناك حاجزٌ كبيرٌ يمنع قبول الاسرائيلين كجارٍ طبيعي له من الحقوق مثل بقية الجيران الطبيعيين، والأمر نفسه حدث في الأردن، كما تدل الأحداث. والظاهرة نفسها مع الفلسطينيين، الذين يزداد إيمانهم بعبثية خيار التفاوض مع الاحتلال، بعد سبعة وعشرين عاماً من التجارب الفارغة. فالسلطة الفلسطينية اضطرت مؤخراً لسحب اعترافها بإسرائيل، بعد إعلان قانون “قومية إسرائيل”، والتوسع في بناء المستوطنات، وإغلاق المؤسسات الأممية كالأونروا التي تخدم الفلسطينيين، وزيادة التعديات على الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية.
المحطة الأخيرة
من هنا تبدو الخطوات المتسارعة للتطبيع في الخليج، أمراً غير مفهوم للأغلبية الصامتة من الشعوب، فهي لم تكن دول مواجهة تدفع ضريبة الدم في مواجهة إسرائيل، ولا تمتلك أرضاً محتلة يدفعها للتنازلات لاستعادتها سلماً. والرهان على إسرائيل هو رهانٌ على حصانٍ خاسر، والتلويح بمشاريع اقتصادية كبرى للخليج إنّما هي وعودٌ خُلّب، يجب أن لا تنسينا ما انتهت إليه الأوضاع الاقتصادية اليوم في مصر والأردن بعد ثلاثين عاماً من التطبيع. بينما يشكّل التطبيع المتسارع استفزازاً شديداً للمشاعر العامة وتحدياً للقناعات الدينية والقومية في هذه المنطقة من العالم العربي، دون اعتبارٍ لدروس تجارب التطبيع الأخرى، من القاهرة وعمّان… إلى محاصرة رام الله وإعلان القدس عاصمةً أبدية لإسرائيل.