متابعات-
يبدو أن قطار التطبيع مع دولة الاحتلال، الذي استغرق أكثر من 40 عاماً ليصل إلى منطقة الخليج منذ انطلاقه في مصر سنة 1978، لن يحتاج لوقت طويل حتى يصل إلى محطات جديدة في دول المنطقة، بل وإلى المحطة الرئيسية فيها المتمثلة في المملكة العربية السعودية.
ولم يكن إعلان التطبيع رسمياً بين الإمارات ودولة الاحتلال إلا تتويجاً لعقود من التعاون غير المعلن، وتقنيناً لعلاقة كانت قائمة بالفعل لكنها لم تكن مؤطرة في معاهدة مكتوبة، وهو الحال نفسه فيما يتعلق بعلاقة الرياض و"تل أبيب"، التي باتت معلومة للجميع رغم عدم إعلانها بشكل رسمي.
الاتفاق الأخير بين الإمارات و"إسرائيل" جرى تحت أعين المملكة وبتنسيق كامل مع ولي عهدها، الأمير محمد بن سلمان، كما قالت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، التي أشارت إلى أن اتفاقاً مماثلاً سيجري قريباً بين الرياض و"تل أبيب".
ويهدف الاتفاق الإماراتي "الإسرائيلي" بالأساس إلى إقامة علاقة رسمية بين دولة الاحتلال والسعودية، أكبر دول الخليج وممثلة العالم الإسلامي، كما نقلت الصحيفة العبرية عن مسؤول إسرائيلي، الأحد (16 أغسطس).
الخطوة التالية، كما يقول المسؤول الإسرائيلي، ستكون اتفاق سلام بين المملكة وإسرائيل، وهو كلام يتفق تماماً مع حديث جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأمريكي، الذي قال، الجمعة (14 أغسطس)، إن التطبيع بين المملكة و"تل أبيب" قادم لا محالة، وإنه أمر حتمي.
كوشنر، وهو أحد عرابي التطبيع، قال أيضاً إن ثمة دولاً مهتمة بالمضي قدماً في إقامة علاقات طبيعية مع "إسرائيل"، وهو حديث يبدو منطقياً جداً بالنظر للسياسة التي يتبعها ولي العهد السعودي في تعامله مع هذا الملف منذ سيطرته على مقاليد الأمور قبل أكثر من عامين.
تأييد صفقة القرن
لقد كان الأمير محمد بن سلمان واحداً من أكثر القادة تأييداً واطلاعاً بل ومشاركة في صياغة "صفقة القرن" التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب، مطلع العام الجاري، وإلى جانبه كان يسير ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد.
وإلى جانب التقارير الغربية الكثيرة التي تحدثت عن المراسلات المستمرة بن ولي عهد السعودية وكوشنر لإبرام الصفقة التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل، فإن صحيفة "الأخبار" اللبنانية قالت، في مايو من العام الماضي، إنها اطلعت على تقارير تؤكد أن محمد بن سلمان عرض على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، مبلغ 10 مليارات دولار مقابل انصياعه للخطة الأمريكية.
وقالت الصحيفة اللبنانية إن بن سلمان عرض على عباس، خلال زيارة الأخير للرياض، في نوفبر 2017، تحمّل نفقات السلطة الفلسطينية لعشر سنوات (مليار دولار عن كل عام)، وتحسين أوضاع الفلسطينيين بالداخل واللاجين في الخارج، مقابل تأييد صفقة ترامب، مضيفة أن عباس رفض العرض لأنه سيكون نهاية حياته السياسية.
وفود وحاخام في الرياض
وفي فبراير من هذا العام، وصل وفد يهودي للرياض في زيارة هي الأولى من نوعها منذ 1993، وأمضى بها خمسة أيام، التقى خلالها بكبار مسؤولي المملكة وعلى رأسهم الأمير محمد بن سلمان، بحسب ما نشرته "هآرتس" العبرية.
ومن بين الذين التقاهم الوفد اليهودي أيضاً الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى، الذي زار هذا العام معسكر "أوشفيتز" لضحايا الهولوكوست وأدّى صلاة الميت هناك ترحّماً على اليهود الذين قتلوا على يد النازيين الألمان.
وقبل هذه الزيارة بعامين، وتحديداً في مارس 2018، التقى بن سلمان زعماء يهوداً، من بينهم رؤساء لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، والاتحادات اليهودية لأمريكا الشمالية، ورابطة مكافحة التشهير، والمنظمة العالمية للدفاع عن اليهود، ومنظمة "بناي بريث" الصهيونية، بحسب وثائق مسرَّبة نشرتها "هآرتس" و"إندبندنت" البريطانية.
وفي لحظة وصفها الحاخام اليهودي ديفيد روزن بأنها "لحظة ثورية"، استضاف العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، في فبراير 2020، الحاخام اليهودي المقيم في القدس في قصره الملكي في العاصمة السعودية، في مقابلة هي الأولى من نوعها في التاريخ الحديث.
غضّ الطرف عن المطبّعين
لقد أحدث الأمير محمد بن سلمان تغييراً جذرياً في سياسات المملكة التاريخية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وحتى على مستوى الرأي نجح الأمير الشاب في إسكات كل صاحب رأي معارض، وسجن كل مناهض للتطبيع، في حين فتح الباب واسعاً أمام من يحبون "إسرائيل" وينادون بالتعامل معها.
المثال الأبرز في هذا المضمار كان المدون السعودي المثير للجدل محمد سعود، الذي استضاف "أصدقاء يهوداً" في منزله بالرياض، وأعرب عن أمله في رؤية المزيد منهم في بلاده، فضلاً عن تأييده اللافت لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي هاتفه نهاية العام الماضي.
وسبق أن أحدث محمد سعود ضجة، في يوليو 2019، بزيارته لـ"تل أبيب" ومدينة القدس المحتلة ضمن وفد استضافته وزارة خارجية الاحتلال، واستهجن الفلسطينيون وجوده هناك، خاصة أنه حرص على التجول بالزي السعودي التقليدي، ما دفعهم لملاحقته وشتمه ونعته بالرخص والنذالة ومن ثم طرده.
وفي أكتوبر 2019، هنأت السفارة السعودية في واشنطن يهود الولايات المتحدة بعيد رأس السنة العبرية الجديدة، وذلك في سابقة كانت الأولى من نوعها.
اتفاق الإمارات.. صمت رسمي وترويج إعلامي
لقد قادت السعودية هجمة ومقاطعة عربية لمصر بسبب توقيع الأخيرة معاهدة كامب ديفيد مع الإسرائيليين سنة 1978، لكنها اليوم تقف صامتة إزاء قيام الإمارات بنفس الخطوة، بل وتركت الحبل على الغارب لمؤيدي هذه الخطوة من الصحفيين والنشطاء السعوديين، في موقف يعكس ما وصلت إليه نظرة المملكة لدولة الاحتلال وللتعامل معها.
وخلال السنوات الماضية، تصاعدت حدة الإساءة للقضية الفلسطينية على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بالسعودية، مروراً باعتقالات واسعة شنتها السلطات في المملكة ضد عشرات الفلسطينيين ممن يوجدون على أراضيها.
وفيما بدا أنه محاولة لجس نبض الشارع العربي والإسلامي، قررت الرياض عدم التعليق رسمياً على الاتفاق الإماراتي "الإسرائيلي"، وهو صمت يعني الرضا غالباً؛ لأن من رفضوا الاتفاق أعلنوا ذلك رسمياً.
وما يدعم هذه الفرضية هو أن صحفيين ونشطاء سعوديين شنوا هجمة شرسة على فلسطين وقضيتها وشعبها، وعلى من رفض التطبيع الإماراتي، في حين نشرت وسائل إعلام سعودية مقالات تُثني على خطوة أبوظبي.
وسائل الإعلام السعودية اهتمت بشكل كبير بنشر الأخبار التي تتحدث عن ترحيب عددٍ من الدول بتلك الاتفاقية، وأفردت لها اهتماماً واسعاً على مواقعها الإلكترونية وصفحاتها على "تويتر"، بل إن صحيفة "الشرق الأوسط" نشرت عدة مقالات ترحب بتلك الخطوة.
كما أعرب مغردون سعوديون عن ترحيبهم بالقرار الإمارات عبر وسم #الإمارات_رسالة_سلام، وأبدى بعضهم رغبته في أن يصل قطار التطبيع إلى محطة الرياض، في حين رفض آخرون الأمر وانتقدوا الداعين له.
ونشرت الصحيفة مقالاً للكاتب السعودي مشاري الذايدي بعنوان "الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي.. اختراق لحاجز الوهم"، قائلاً: "إن الإمارات قطفت مكسباً ملموساً للقضية الفلسطينية، ليس بالشعارات، بل بالعمل"، كما أعادت قناة "العربية" الممولة من الرياض نشره أيضاً في موقعها الإلكتروني.
ونقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" عن الملياردير اليهودي الأمريكي حاييم سابان، أن ولي العهد السعودي "يخشى من مهاجمة القطريين والإيرانيين في حال أقام علاقات علنية مع إسرائيل".
وكشف سابان، الذي توسط من أجل إبرام اتفاق السلام بين الإمارات و"إسرائيل"، أنه التقى محمد بن سلمان على مأدبة عشاء وسأله: لماذا يبقي العلاقات مع "إسرائيل" تحت الرادار؟ لماذا لا يخرج ويقود الأمور؟ فأجابه (بن سلمان) بأنه يستطيع أن ينفذ ذلك في لحظة، لكنه يخشى من مهاجمة القطريين والإيرانيين له، كما أنه يخشى من حدوث فوضى داخل بلاده أيضاً.