من الصحافة اللبنانية-
هناك إشارات متزايدة على أن الدور السعودي التقليدي، المستمر منذ ما قبل التأسيس الرسمي للدولة العبرانيّة على أرض فلسطين في عام 1948 لناحية إدارة عمليّة استيعاب المستوطنين اليهود في المنطقة العربيّة، شرع يأخذ أبعاداً أكثر جذريّة تتجاوز إدارة تسريع عمليّات تطبيع النظام الرسمي العربي علناً مع مملكة يهوذا الجديدة، إلى السعي الممنهج نحو إزالة عوائق التهوّد الشامل أمام شعوب العالم الإسلامي، ومنها السعي إلى عبرنة النص المركزي للثقافة العربية ـــــ القرآن الكريم ـــــ كما دعوات متتابعة لإحلال مصحف سعودي معصرن، بدلاً من مصحف الخليفة عثمان التقليدي، بحجّة تصحيح آلاف الأخطاء المتراكمة في الكتابة والإملاء وقواعد اللغة.
كانت مملكة آل سعود الحديثة، التي نشأت في إطار المشروع البريطاني الإمبريالي للهيمنة على الشرق الأوسط، أولى التجارب الاجتماعية الشاذة التي تفتّقت عنها عقول النخبة المتصهينة في وزارة الخارجية والمستعمرات، لإنشاء دولٍ وظيفيّة ما بعد كولونياليّة تقوم حصراً على أساس العنصرية الدينية في وقت كانت فيه القوميّات (الوطنية) هي النموذج النظري لقيام الدول الحديثة، إذ سبق اتفاق لندن مع ابن سعود، في عام 1915، وعد بلفور (1917) لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، وخطّة تقسيم الهند عبر إنشاء باكستان المسلمة (السنيّة) (1949). وقد أثبتت هذه التجارب الثلاث ـــــ المستمرّة إلى اليوم ـــــ كفاءة استثنائيّة في خدمة المصالح الإمبريالية بأفضل ممّا قد يقوم به الراعي الكولونيالي نفسه. ولم يتردّد الأميركيون ــــــ تجّار الديمقراطية المزيّفة ــــــ عن وراثتها كما هي، والتمديد لها وتعميق تشبيكها بالمركز الإمبراطوري الجديد في واشنطن.
وبغير حراسة آبار النفط العربية لمصلحة الغرب، وتكريس الاستقلال الشكلي للمحميّات البريطانيّة في الخليج، وتفتيت اليمن الكبير، وقيادة معسكر الرجعيّة الخانعة في العالم الإسلامي من أندونيسيا إلى موريتانيا، فإنّ إحدى أهم مهمّات النظام السعودي، منذ لحظة التأسيس، كانت إدارة الجانب العربي لناحية تسهيل استيعاب المستوطنين اليهود الغرباء ضمن شعوب الإقليم، وتسكين العداء تجاه مملكة يهوذا الجديدة، وهي مهمات كان على آل سعود القيام بها، إن هم أرادوا الاحتفاظ بحماية السادة الغربيين لهم في مواجهة أعداء محليين أو إقليميين. وإذا كانت متطلّبات المراحل التاريخيّة السابقة، ومستوى تعقّد بنية النظام السعودي، لم تسمح له طوال القرن الماضي بالمجاهرة علناً بالعلاقات الوثيقة مع النظام الإسرائيلي، فإنّ اللعبة اختلفت تماماً بداية القرن الحالي، إذ شنّ السعوديّون هجوم مبادرة «السلام» العربيّة السيئة الذكر، في عام 2002، التي خاطبت الكيان العبراني كواقع موضوعي لا يُنقض، ودعته على لسان الملك السعودي، آنذاك (عبدالله بن عبد العزيز)، إلى قبول اعتراف مجموع الدول العربية به، وبناء علاقات طبيعية معه، في إطار سلامٍ شاملٍ ودائمٍ يكرِّس نهائيّة دولة إسرائيل، ويستوعبها جزءاً لا يتجزّأ من الإقليم. ومن وقتها، تعاظم التنسيق السعودي ــــــ الإسرائيلي على أرفع المستويات العملياتيّة والاستراتيجيّة، منذ سقوط بغداد في عام 2003، وما تلاها من موجة «ربيع عربي» مسموم أسقط الدولة الليبيّة، وأنهك مصر، وكاد يطيح بسوريا، قبل التلاقي حول العداء للمقاومة في لبنان، ومواجهة النفوذ الإيراني عبر المشرق، وأخيراً العدوان على اليمن، إضافة بالطبع إلى الترويج للحكم السعودي في أوساط النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة.
وقد شرع السعوديّون، منذ بعض الوقت، في التمهيد لتحوّل نوعي في شكل التعامل العربي مع الكيان العابر، يفوق سياسة التطبيع النخبوي ــــــ الرسمي، إلى التهوّد وخلخلة ثقافة التناقض البنيوي لسكان المنطقة مع الكيان العبري، حتى على مستوى المسائل التقنيّة المحضة، وذلك عبر خطّة متدحرجة تنطلق من إشارات عابرة في الإعلام والمسلسلات والصحف، ودائماً عبر شخصيات وأفراد يدورون في فلك آل سعود من دون تمثيلهم رسميّاً، لتتطوّر تالياً بتطبيع علني من قبل أنظمة عربيّة هامشيّة تعيش في ظلّ مملكة الخير، ولا تخرج عن طوعها (عُمان والبحرين والإمارات والسودان)، تحضيراً لوصول الشقيقة الكبرى إلى محطّة التصريح بالارتباط العضوي مع الدولة العبريّة، وهي محطّة دونها عقبات ثقافية يتعاون المثلّث الأميركي ــــــ الإسرائيلي ـــــــ السعودي على تجاوزها. فالسعوديّون، منذ دولتهم الأولى التي قامت ــــــ كما الدولة الحالية ــــــ بحدّ السيف ومطلق العنف، لفّقوا شرعيّتهم بالتحالف مع الوهابيّة المتطرّفة، ومكّنهم البريطانيّون من لعب دور عالمي كرعاة للحرَمين الأقدس عند المسلمين ــــــ وضحّوا لذلك بمملكة حليفهم الهاشمي، الأمير الحسين بن علي حاكم الحجاز. ولا شكّ في أنّ التسرّع بالتطبيع العلني، سينعكس سلباً على صورة النظام السعودي في العالم الإسلامي، ولا سيّما في ظلّ صعود العثمانية الجديدة في تركيا، وانحياز قطاع عريض من الإسلام السياسي السني إليها، كما استمرار تحدّي إيران كراعية للإسلام الشيعي. ولذا يتمّ منهجيّاً بناء سرديّة مزيّفة للاستهلاك العمومي، تقوم على ثلاثة محاور استراتيجية، أوّلها الإيحاء بأنّ السعوديين كانوا آخر من التحق بقطار التطبيع، وأنّهم وصلوا إلى ذلك حصراً بعدما طبّعت جميع الدول العربية على الإطلاق (ربما باستثناء سوريا ــــــ أرض الجهاد المفتوح)، ومعظم الدول الإسلامية، بما فيها تركيا وقطر، وثانيها منح السعودية سبباً عملياً لإعلان التطبيع، من زاوية الولاية الدينية على الحرم الشريف في القدس المحتلّة، في إطار ترتيبات «صفقة القرن» ــــــ وهو أمرٌ يثير خلافاً مع السلالة الهاشمية في الأردن، تحاول بريطانيا إيجاد مخارج سعيدة له ــــــ وثالثها إزالة الألغام الأيديولوجيّة التي قد تعيق التماهي مع المشروع الاستيطاني العبري ــــــ وأخطرها نصوصٌ قرآنيّة بعينها عكست صراعاً ثقافياً مع يهود الجزيرة في مرحلة ما من تاريخ البعثة المحمديّة.
في إطار الاستراتيجية الأخيرة هذه تحديداً، يمكن فهم الخطوات الجريئة ــــــ غير المسبوقة في العالم الإسلامي منذ أكثر من ألف سنة تقريباً ــــــ التي يتبنّاها النظام السعودي تجاه «تنقية» المصحف التقليدي المفترض أنّه مستند إلى النسخة الرسمية الموحّدة، التي أُنجزت في عهد الخليفة عثمان (تولّى الخلافة من عام 644 إلى عام 656 ميلادية) من كلّ ما قد يتعارض مع السرديّة التوراتية ــــــ الصهيونية، وخصوصاً ما يتعلّق بفلسطين و«المسجد الأقصى» ــــــ على الرغم من أنّ النص القرآني، في عمومه، يتقاطع في مفاصل كثيرة مع المرويات الإسرائيلية ــــــ وذلك تحت ستار دخان كثيف عن «تحديثٍ» لرسم المصحف، وتصحيحٍ لأخطاء مزعومة تراكمت عبر القرون ـــــــ بحسب السعوديين دائماً. ومن ذلك، ما كُشف عنه بداية العام الحالي من إصدار مجمّع الملك فهد لطباعة المصحف ــــــ وهي الجهة السعوديّة التي تتولّى بكرم زائد طباعة المصحف وترجماته إلى لغات العالم الرئيسة وتوزيعها مجاناً عبر العالم كجزء من أدوات القوّة الناعمة للنظام ـــــــ نسخة مُترجَمة إلى العبريّة المعاصرة حفلت بعدّة مئات من التحريفات في أسماء الأشخاص والأماكن، أخطرها وأوضحها تغيير اسم «المسجد الأقصى»، كما يرد وصف مدينة القدس في سورة الإسراء إلى التسمية العبرانيّة «جبل الهيكل»، والتعمية ــــــ وفق خبراء اطّلعوا على النسخة قبل سحبها من الموقع الإلكتروني بعد إثارة المسألة ـــــــ على الاسم العربي للنبي محمّد الذي يذكر في الرسم التقليدي للمصحف أربع مرّات.
هذا العبث الأيديولوجي في الترجمات الرسمية للقرآن، بغاية «هودنتها»، يتمدّد الآن باتجاه النص العربي الكلاسيكي ـــــــ المرتبط في الذهن الجمعي للمسلمين بمفهوم أنّ القرآن محفوظ وثابت ولم يتغيّر ــــــ وذلك عبر تمرير مقالات مشبوهة متتابعة في مواقع سعودية تطالب بتصحيح آلافٍ من الأخطاء المزعومة في المصحف الحالي، كتابةً وإملاءً ونحواً، وإعادة كتابة النص برسم حديث بحجّة تسهيل قراءته على الأجيال الجديدة والمسلمين من غير العرب.
أوّل هذه المقالات، ظهر في كانون الثاني الماضي في موقع «آراء سعودية» الإلكتروني، لكاتب مغمور يدعى أحمد هاشم، ويدعو فيه السلطات السعودية إلى تولّي المهمّة التاريخية لتصحيح 2500 خطأ في رسم المصحف الحالي ــــــ ومنها بالطبع أسماء ومصطلحات ارتبطت بلغات وثقافة شعوب المنطقة وقت البعثة المحمديّة ويرتكز إليها معظم الجدل في الغرب حول أصول القرآن لكن ذلك بحث آخر. وقد تسبّبت المقالة، حينها، في مبارزات بين التقليديين والحداثيين في المملكة على مواقع التواصل الاجتماعي، راقبتها السلطات من دون صدور أيّ تعليق رسميّ عنها. وقد استُعيد الطرح مجدداً، الشهر الماضي، بعدما نشر موقع «إيلاف» الإلكتروني الذي يديره عبد الله العمير ــــــ صديق الملك سلمان الشخصي وخادم ابنه محمد ــــــ مقالة لكاتب كردي ــــــ عراقيّ مرتزق، يجدّد فيه دعوة أحمد هاشم المشبوهة ــــــ أقلّه لناحية التوقيت على افتراض حسن النيّة ـــــــ وينادي الرئيس (الكردي) للعراق للتعاون مع آل سعود ـــــــ ذاكراً بالاسم الملك سلمان وولي عهده ـــــــ ودعم قيادتهما هذا المشروع (الشديد الأهمية روحياً، وأيديولوجيّاً ودينياً ـــــــ على حدّ تعبيره)، والذي هو بحكم الناجز وينتظر مجرّد الإشارة لنشره.
بالطبع، لا صحافة سعوديّة تنطق عن الهوى، ولا بدّ أن السعوديين يسرّبون هذه المقالات تحضيراً لإطلاق مصحف سعودي، يحتكر النص القرآني وفق رسم جديد لمصلحة تعميق هيمنة المملكة على القيادة الروحية للعالم الإسلامي في مواجهة مدّعي الزعامة الآخرين، ويمنح الكيان العبراني القلق وجوديّاً شرعيّة تاريخية وأيديولوجيّة في العقل العربي والمسلم، تناول الصهيونية انتصارها النهائي. التصدّي لسياسات التهوّد السعودي العميق، يجب أن يرتكز أساساً على جهد منظَّم لنزع الوجه الديني المحض عن الصراع بشأن فلسطين، الذي لا يخدم حصراً سوى التمكين للمشروع العبراني في قلب الشرق وتتبنّاه الصهيونية العالمية رسمياً وأيديولوجياً، كذريعة لتبرير وجود كيان أجنبي استيطاني قائم على العنصرية الدينية البغيضة في القرن الحادي والعشرين، واستعادة القضيّة إلى حقيقتها الوحيدة الساطعة: صراع إلغاءٍ مع مشروع فاشيّ توسعي مسموم، من تركة العهد الكولونيالي، ومفتاحٌ للهيمنة الأميركية في المنطقة. صراعٌ لا يمكن أن يهدأ قبل تصحيح أخطاء التاريخ بالكامل، تماماً كما أُزيل الاحتلال الفرنسي المظلم للجزائر من جذوره، ولو بعد 132 عاماً على تحويل درّة المغرب العربي إلى «فرنسا جنوبيّة».