(مبارك الفقيه\ راصد الخليج)
منذ ثمانية عشر عاماً أطلق العاهل الأردني الإشارة الأولى لبَدء مرحلة تغيير جذري في منطقة الشرق الأوسط.. يومذاك تحدّث الملك عبد الله عمّا يُسمّى "الهلال الشيعي"، مهوّلاً من خطورة التمدّد الإيراني في المنطقة، وتأثيراته على الاستقرار "القومي" العربي.. آنذاك قلّلت بعض التّحليلات من أهمية التّصريح الأردني ووضعته في إطار التسرّع والتّهويل غير المبرّر، فيما اعتبره بعض المثقّفين العرب بمثابة تأليب للرأي العام ضدّ الشيعة، وتقديم إيران الشيعيّة "الفارسية" كعدو مذهبي للعرب "السنّة"، وتحويل الأنظار عن القضيّة الفلسطينيّة وإسقاط تدريجي لحالة العداء لإسرائيل.
مقدّمات الانقلاب
لم تكن المنطقة العربية في تلك المرحلة قد خرجت بعد من حالة "الانتشاء السياسي والإعلامي" عقب انتصار لبنان عام 2000، وانسحاب إسرائيل دون قيد أو شرط أو ترتيبات أمنية، ولكن سرعان ما بدأت مقدّمات الانقلاب تتمظهر بقوة، بدءاً من اغتيال ياسر عرفات عام 2004، ثم اغتيال رفيق الحريري عام 2005، وما تلاه من انسحاب القوات السورية من لبنان، واندلاع حرب تموز عام 2006 التي كانت تهدف إلى تشكيل "شرق أوسط جديد" أمريكي، يتماهى مع مشروع شيمون بيريز في مقولة "الشّرق الأوسط الكبير"، وصولاً إلى "انتفاضات الربيع العربي" في مصر وتونس وليبيا، وما أفرزته من سقوط أنظمة وحكّام ما كان في مخيّلة أحد أن يَطالها التّغيير، إلى أن اندلعت "ثورة" التّغيير في سوريا متزامنةً مع إعلان دولة "الخلافة الإسلامية"، وتمدّد الإرهاب الداعشي إلى سوريا والعراق ولبنان وإيران، واشتعال جبهة الحرب في اليمن، وكانت دول الخليج وحدها بمنأى عن هذه التّطوّرات.
إسرائيل تجتاح الخليج
قادت هذه التطوّرات الدراماتيكيّة المُتسارعة إلى نشوء معادلة جديدة في المنطقة، وفق ميزان اصطلاحي جديد في السياسة والأيديولوجيا، وأرست انقسامات عميقة في الجامعات العربية والإسلامية ومجالسها من جهة، وانساقت في عقد تحالفات فردية مع الغرب والولايات المتّحدة الأمريكيّة وإسرائيل من جهة ثانية، وتحوّلت المقاومة الفلسطينية في الاعتبار العربي إلى مجموعة مخرّبين، يعرقلون مساعي السلام في المنطقة، فيما سارعت الدول الخليجيّة إلى التّطبيع العلني مع إسرائيل وعقد الاتّفاقات السياسيّة والعسكرية والأمنية وتدشين المشاريع المالية والاقتصادية، لتجتاح مجموعات السياحة والتجارة الإسرائيليّة شوارع دبي وأبو ظبي والمنامة وجدّة والرياض، فيما ينال سفراء دول الخليج بركة حاخامات اليهود في تل أبيب والقدس المحتلة.
حدث الانقلاب، وباتت إسرائيل - التي تفتخر بأنّها الموطن الأوّل للشاذّين في العالم - الحليف الأوّل للعرب، الذي يحمل الخير والازدهار، ويبشّر بالدين الإبراهيمي الذي يذوّب الأديان في معبد واحد كمكان التقاء بديل عن كنيسة القيامة والمسجد الأقصى والمسجد الحرام، فيما تحوّلت إيران إلى العدو الأوّل الذي يهدّد أمن المنطقة بسلاحها النّووي، ويحول دون إرساء السلام القادم من واشنطن، بعدما أصبحت مقولة الصراع العربي – الإسرائيلي معزوفة قديمة سقطت من كتب التاريخ والجغرافيا.
بايدن من تل أبيب إلى الرياض
وهكذا برز مشروع الحلف العربي – الإسرائيلي المشترك أو ما سمّي "الناتو العربي"، وهو يهدف وفق ما أُعلن، إلى بناء منظومة دفاع أمنيّة - عسكرية، لمواجهة الإرهاب والتطرّف والتصدّي للنّفوذ الإيراني، ويؤسّس عملياً لإنشاء "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي" (MESA)، بما يعني تنصيب إسرائيل على رأس قوّة تجمع جيوش الدول العربية التي تنضوي في هذا الحلف. ولم يخفِ بايدن، الذي يسير على منوال ما ورثه من الرؤساء السابقين في هذا المجال، أنّ أحد أهم أهداف جولته المُرتقبة، هو ضمان حماية المصالح الأمريكية في المنطقة من خلال تكريس مشروع هذا الحلف وصولاً إلى تدشين العلاقات العلنية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، ومن المرجّح أن يعقد رباط هذه العلاقات بانتقاله المباشر من تل أبيب إلى الرياض، ومن الطبيعي أن يمهدّ لهذا الربط زيارات مكوكية تنسيقيّة بين المسؤولين في العاصمتين تحضيراً لمدّ السجّاد الأحمر أمام الإعلان المنتظر.
الخليج ساحة الحرب الأمريكية
إنّ حساسيّة الظّرف الرّاهن الذي يعيشه العالم على وقع خطى الانهيار الكوني الشّامل بفعل الحرب الروسية – الغربية، تعطي لزيارة بايدن والحلف العتيد خصوصية استثنائية، وتؤشر إلى مقاربة مختلفة في آليات الحفاظ على المصالح الأمريكية، ولا سيّما أنّ المنطقة قد تشهد تراجعاً أكبر للتواجد الأمريكي فيها مقابل تزايد الوجود العسكري لحلف شمالي الأطلسي، ما يعني تهديداً جدّياً بتحويل المنطقة إلى ساحة حرب قادمة من خلال إقحام العرب في خضمّ أي مواجهة عسكرية تدخل فيها روسيا والصين وحلفائهما ضدّ الحلف الأمريكي – الأوروبي.
وقد تكون إيران هي اللّافتة الكبيرة التي ترفعها واشنطن ومعها تل أبيب لدفع العرب إلى إنشاء تكتّل عسكري، ولكن ميزان القوى الاستراتيجي والسياسي في مواجهة الحلف المضاد لأمريكا لا يسمح للعرب بأن يكونوا أداة محاربة، وقد رشح عن أكثر من طرف عربي مواقف أكّدت عدم قدرتها على الانضواء في هذا الحلف، ولذا فإنّ جلّ ما يمكن لهذه الدول القيام به هو وضع أراضيها وإمكاناتها التسليحيّة ومطاراتها وقواعدها وقسم من جيوشها في خدمة القيادة الأمريكية – الإسرائيلية، وهكذا تستنسخ واشنطن تجربة الحرب الروسية – الأوكرانية، لتقاتل روسيا والصين حتّى آخر جندي عربي، وبذلك تضمن أوسع دائرة ممكنة من الخراب تمهيداً لإعادة تشكيل النّظام العالمي الجديد بقيادتها، دون استثناء المنطقة العربية الغنية بالنفط ومصادر الطاقة.
السعودية الخاسر الأكبر
يحمل بايدن مشروع تدمير للمنطقة العربية والخليجيّة، والخاسر الأكبر في مشروع بايدن هو المملكة السعودية، سواء نجح في تشكيل الحلف المزعوم أم لم ينجح، فإنّ التزامن بين ملف استخراج النّفط من حوض البحر المتوسط وحاجة أوروبا إليه بسبب الحظر الروسي، وتكوين لوبي سياسي – أمني – عسكري – اقتصادي في المنطقة تقوده إسرائيل، يجعل من أنظمة العرب وحكّامها منظومة تابعة لإسرائيل، بحيث تصبح قادرة على التحكّم بمنابع النّفط وتحديد مسارات إمداد الطاقة والتجارة الدولية عبر الممرّات البحرية، فضلاً عن أنّه يقوّض مشروع الأمير محمد بن سلمان وفق رؤية 2030، ويمنعه من تحقيق حلمه في تحويل مشروع "نيوم" إلى مشروع اقتصادي عالمي، فهل يأكل العرب الطّعم كالعادة ويندفعون للتّقوقع في السلّة الأمريكيّة – الإسرائيليّة؟! وماذا سيجني العرب من اشتعال المنطقة وخسارة سنوات طويلة من العمل وصرف آلاف المليارات لمواكبة العالم الجديد؟! هل سيتحّمل العرب والخليجيون تحديداً مشهد بلادهم وهي تشتعل، ليعودوا إلى ضرب الخيام في الصحراء والتفيؤ في ظلالِ الإبل؟!