يحيى دبوق-
تتواتر التسريبات في الإعلام الأميركي حول اتفاق «خطوط عامة» بين الولايات المتحدة والسعودية، يشمل تطبيعاً بين الرياض وتل أبيب. إلّا أن التباين حول حدود هذا الاتفاق وتفاصيله يحول حتّى الآن دون الإعلان عنه، وإنْ بات واضحاً أنه سيكون أوسع وأشمل ممّا يجري تقديره، في حال نجحت الأطراف في بلورته. والظاهر أن الرياض لا تستعجل إبرام صفقة «كيفما كان»، لا تلبّي قدْراً معتدّاً به من مطالبها، وفي مقدّمتها منح المملكة دوراً ريادياً في المنطقة، اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وسياسياً، تحت مظلّة حماية أميركية كاملة للنظام السعودي في مواجهة التهديدات الحالية والكامنة، من دون أن يغيّر النظام من ماهيته. لكن هل تريد - أو تقوى - الإدارة الأميركية الحالية تمرير صفقة كهذه، تشمل برنامجاً نووياً مع دورة نووية كاملة في الأراضي السعودية؟ يبدو أن واشنطن تراوح في دائرة مفرغة من الأخذ والرد، في محاولة لتخفيض سقف المطالب السعودية، وإيجاد «حلّ خلّاق وإبداعي»، يعطي الرياض ما تريد من دون الإضرار بالاستراتيجية الأميركية، كما الإسرائيلية في المنطقة، وتحديداً عبر الاكتفاء بأخذ نتيجة نووية تأتي من الخارج. فهل تنجح الإدارة في ذلك؟
قد يكون لدى الولايات المتحدة هامشُ مناورة يتيح لها تمرير جزء معتدّ به من المطالب السعودية، وهو ما لا يتوفّر كثيراً لدى إسرائيل، التي إنْ وصلت الأمور إلى الحدّ المذكور، فستكون أمام تحدٍّ غير سهل، وخاصة أن الاتفاق العتيد يأتي لمصلحة واشنطن أولاً، وليس لمصلحة التطبيع بين الرياض وتل أبيب حصراً. في هذا الإطار، تتضارب المواقف الإسرائيلية المعلَنة في شأن إمكانية منح السعودية برنامجاً نووياً، بلا قدرة على التخصيب داخل أراضي المملكة. لكن في الأصل، هل ترضى الرياض بذلك؟ وهل ستكون واشنطن معنيّة بإرضاء الأخيرة، وإنْ على حساب تل أبيب؟ وفي حينه، هل سيبقى الموقف الإسرائيلي كما هو؟ ثمّ كيف لمطلب البرنامج النووي السعودي، الذي كاد يكون حتى الأمس القريب شبيهاً بمواضيع أفلام الخيال العلمي، أن يُطرحَ بقوّة على طاولة القرار؟ وماذا عن علاقة التابع والمتبوع التي حكمت بين الجانبين؟ وما الذي استجدَّ كي تكون السعودية، نسبياً طبعاً، متمسّكة بعلاقة ندّية مع الراعي الأميركي لها؟
التصلّب السعودي أمام الولايات المتحدة، والابتزاز، والتهديد الكلامي وشبه العملي بامتلاك خيارات «غير أميركية» لتحقيق مصالح النظام السعودي، كلّها إشارات دالّة على تراجع المكانة الأميركية وما يتبعها من القدرة على فرض الإرادة. وبغضّ النظر عمّا إذا كانت الرياض ستُقدم على تنفيذ تهديداتها غير المباشرة، عبر استقدام الصين لتحقيق القدرة النووية لديها، فهي تستخدم حالياً الجانب الصيني «سوطاً» للتأثير في قرار الولايات المتحدة، التي تبذل جهوداً كبيرة للحؤول دون تعاظم القدرة الصينية، وتقليص نفوذ بكين دولياً، وبشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط، حيث الشريان الحيوي النفطي للمنافس الصيني. وفي هذا السياق، الإغضاب الأميركي للسعودية، أو دفعها إلى مزيد من الانزياح في اتجاه الصين، يشكّل ضرراً استراتيجياً كبيراً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لا تقتصر مساحته على مصالحها في الإقليم فحسب، حيث تريد من حلفائها التصدّي بأنفسهم للتهديدات القائمة، مع الاستعانة بها من بعد.
وإذا كانت السياسات والاستراتيجيات الهجومية التي كانت متّبَعة أميركياً لتحقيق مزيد من المصالح والنفوذ، والإضرار بالخصوم والأعداء، تراجعت لتحلَّ مكانها استراتيجية الحفاظ على المكتسبات ومنع خسارتها، فإن انكفاء واشنطن عن «المبادرة الهجومية» في منطقة الشرق الأوسط، يُغري الخصوم والأعداء بتحقيق مصالحهم على حسابها، ما يستدعي منها إيجاد بدائل من المبادرات تلك، وعبر حلفائها أنفسهم. ولعلّ هذا هو ما يثير قلق إسرائيل التي تعتقد أنه وإن كان الرئيس الأميركي، جو بايدن، ملتزماً بأمن الدولة العبرية وبعلاقة قوية معها، إلّا أنه في الوقت نفسه قليل الاهتمام بالمنطقة، إلا بما يرتبط بالتهديدات المباشرة، أو بالصراعات الدولية القائمة التي تخوضها الولايات المتحدة، في شرق أوروبا مع روسيا، وفي الشرق وحول العالم مع العملاق الصيني.
والواقع أن الاتفاق الذي تعمل عليه واشنطن مع الجانب السعودي، يركّز تحديداً على البدائل المشار إليها، والتي يعبَّر عنها بـ«ناتو شرق أوسطي»، تقوده كلّ من الرياض وتل أبيب. ومن هنا، يُفهم السعي الأميركي لإقامة نوع من التحالف الدفاعي بين الدول العربية وإسرائيل، بما يمكّن الولايات المتحدة من تحقيق مصلحتَين استراتيجيتَين: درء التهديدات - الإيرانية خصوصاً - والاحتفاظ بالمكاسب، وعدم التدخّل المباشر الذي يتطلّب مخاطرة ودفع أثمان. ومن هنا، لا يُتوقّع أن تتراجع أميركا عن رغبتها في تحقيق الاتفاق الإقليمي بين حليفيْها، وهي ستظلّ تحاول حتى لو فشلت ابتداءً، وحتى لو كان شريكاها، إسرائيل والسعودية، غير مستعجلين نسبياً.