توفيق رياحي- القدس العربي-
من المفروض أن السؤال الذي في العنوان يُطرح عن دور الولايات المتحدة. لكن الدور الأمريكي في أيّ تقارب إسرائيلي مع الدول العربية ليس جديدا. فهو واضح وموجود منذ الوزير هنري كسنجر وحتى قبله. ما هنالك اليوم أن واشنطن كثّفت جهدها للتقريب بين إسرائيل والسعودية ولو بمنح الرياض تنازلات لم تكن مستعدة لها في الماضي.
لكن القضية عميقة ومعقدة، فلكَي تنجح واشنطن في إقناع المملكة بالتطبيع مع إسرائيل، عليها أن تتودد لها وتُقدّم لها تنازلات كثيرة ومتنوعة. بيد أن أيّ عمل في هذا الاتجاه يعني التقارب مع نظام متهم بأنه لا يؤمن بالديمقراطية والحريات، وهذا يفضح جهود أمريكا المزعومة لنشر الديمقراطية في العالم.
وفوق كل هذا، النتائج غير مضمونة، إذ لا الرياض على استعداد لمجاراة واشنطن في كل شيء (في وجود بدائل مثل الصين وروسيا)، ولا إسرائيل، خصوصا في ظل التحالف العنصري الحاكم حاليا، مستعدة لتقديم تنازلات كبرى للفلسطينيين قد يطلبها السعوديون كثمن للتطبيع.
إذا، هو مسعى مكلف وربما خاسر لأي إدارة أمريكية. فمن بقي لجر الرياض إلى قطار التطبيع ومنح إسرائيل هدية العمر التي تحلم بها؟
يبقى بعض العرب. والدور العربي يُختصر في دولة الإمارات وبدرجة أقل المغرب.
يتأكد مع الوقت أن موجة التطبيع العربي الجديدة مع إسرائيل تقودها قاطرتان، واحدة في الشرق هي الإمارات، وأخرى في الغرب هي المملكة المغربية.
عندما يتعلق الأمر بالسعودية، لا تملك أبوظبي والرباط أيَّ أدوات للضغط المباشر والصريح على الرياض وإجبارها على التقارب مع إسرائيل، خصوصا بعد أن فرّقت قضايا أخرى بين القادة في الرياض وأبوظبي. لكن هناك أدوات وطرق أخرى لا تقل نجاعة لا تدَّخر الإمارات جهدا في اللجوء إليها لبعث رسائل باتجاه الشقيقة الكبرى.
المفتاح الأول في جهود التطبيع العربي مع إسرائيل نفسي. الجوانب النفسية والمعنوية هي أكبر حاجز أمام العواصم العربية الراغبة في التطبيع. أهمية هذا العامل جعلت أن مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، ورغم أنها بادرت إلى التطبيع مبكرا، لم تتحرر كليا من الجوانب النفسية والموروث المعنوي تجاه إسرائيل. لهذا لا ننتظر أن تكون السعودية الاستثناء، العكس هو الصحيح بحكم الوزن الاستراتيجي والمعنوي للمملكة عربيا وإسلاميا. هذا بالضبط ما تشتغل عليه الإمارات.
عودة إلى شهر أيلول (سبتمبر) 2020: في بداية التطبيع الإماراتي الإسرائيلي فوجئ العرب، وحتى الإسرائيليون، بالاندفاع الكبير لأبوظبي نحو إسرائيل، ونحو فعل كل شيء أمام الملأ وبجرأة وجرعة زائدتين.. تعاون أمني صريح واتفاقات تجارية مهمة حتى قبل أن يجف حبر توقيع «الاتفاقات الإبراهيمية»، وفود سياحية من البلدين في اتجاه البلدين (بعض الأرقام تفيد أن مليون إسرائيلي زاروا الإمارات منذ التطبيع)، تسابق «مؤثرين» إماراتيين إلى زيارة إسرائيل والترويج لها بمبالغة واضحة، ضغط إماراتي لدفع حكومات عربية أخرى للانضمام إلى الاتفاقيات.. إلخ.
ثم اصطدم الحماس بتفاصيل صغيرة من الداخل السياسي الإسرائيلي والقبضة الأمنية الإماراتية، فاضطرت أبوظبي إلى تخفيف سرعة القطار دون أن توقفه. استمر العمل عبر تلميحات وتغريدات ومقالات لشخصيات عامة إماراتية تُمجّد التطبيع. آخر هذه المقالات لسالم الكتبي في «جيروزالم بوست» الإسرائيلية الثلاثاء المصادف للخامس من الشهر الجاري، اعتبر فيها أن حسابات السعودية كثيرة ومعقدة عندما يتعلق الأمر بالتصالح مع إسرائيل، وأن إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل وإيران يخدم طموحات السعودية بقيادة محمد بن سلمان والمكانة الدولية التي تبحث عنها.
إصرار أبوظبي على إظهار اندفاعها نحو إسرائيل يحمل رسائل للمتروين والمتأخرين وأبرزهم السعودية، منها أننا تركنا الماضي وراءنا وأن إسرائيل لم تعد مشكلة، وأنكم يمكنكم الاحتذاء بنا وجني المكاسب مثلنا. هل يُثمر الجهد الإماراتي؟ أكيد، لكن بهدوء وبطء.
بالنسبة للمغرب الوضع مختلف نسبيا، لكن الجوهر واحد. لم يشكل العامل النفسي حاجزا كبيرا لأن الأرضية كانت موجودة منذ تجربة التطبيع التي بدأها الملك الراحل الحسن الثاني. كما أن المسوغات موجودة هي الأخرى ومنها أن يهود المغرب حيثما كانوا جزءا من نسيجه الاجتماعي، وأن المملكة لم تقطع يوما علاقتها بيهودها الذين هاجروا إلى إسرائيل منذ خمسينيات القرن الماضي.
إسرائيل تعمل هي الأخرى بكل طاقتها وأذرعها على إبقاء التطبيع مع السعودية حاضرا يوميا في النقاش العام ووسائل الإعلام. في هذا السياق أفردت صحيفة «جيروزاليم بوست» ثلاث مقالات على صفحتها الأولى للتطبيع مع السعودية يوم الثلاثاء قبل الماضي.
يحق لإسرائيل أن تتشجع على الاستثمار في «الضغط» على السعودية، خصوصا وهي ترى جدار الفصل بين البلدين يتشقق.. مرة وفد رياضي إسرائيلي يحل ضيفا على المملكة، مرة زيارة ثقافية، ومرة طائرة تقل سياحا إسرائيليين أُصيبت بعطل أثناء تحليقها في المجال الجوي السعودي (مجرد صدفة؟) فاضطرت للهبوط في مطار جدّة.
بالنسبة للمؤسسة السياسية والأمنية في إسرائيل، وبغض النظر عن الخلافات والأزمات الداخلية، السعودية هي الجائزة الكبرى، وتستحق عناء المثابرة والصبر عليها. هناك اليوم خيط رفيع من الود والتواصل بين الرياض وتل أبيب، وهذا أكثر من كاف بالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية في الوقت الحالي.
في الظاهر يستعجل الإسرائيليون التطبيع مع العرب بلا استثناء، لكن المخططين منهم وصنّاع السياسات واثقون أن هذا «الخيط الرفيع» هو الطريق الصحيح، وأنها مسألة وقت فقط ويلتحق الجميع بما في ذلك السعودية. واثقون أنهم مثلما انتظروا 75 سنة سينتظرون عشر أو عشرين سنة أخرى لتحقيق أهدافهم من دون ثمن يُذكر كما فعلوا في 2020.