عباس بوصفوان-
اتفاقية محبطة، ومتواضعة المضمون، ولا تشكل نموذجاً لما يتطلّع إليه زعماء دول مجلس التعاون الخليجي الست. هكذا يمكن وصف مشاعر الدول الخليجية ومواقفها، وهي تدقّق بنود الاتفاقية الأمنية الموقّعة بين أميركا والبحرين، في 13 أيلول الماضي. فهي لا تضيف فارقاً إلى ما هو متاح، منذ عقود، من «شراكة» أمنية، ما دامت لا تلزم واشنطن بالدفاع عن الدولة الخليجية.
أولا: ثلاث حالات للسند الأميركي المرتجى
تتطلّع السعودية والإمارات وقطر والكويت وعُمان، وكذلك البحرين، إلى اتفاقيات مع الولايات المتحدة، تُوقَّع مع كل دولة على حدة، توجبُ على واشنطن اللجوء إلى آلتها العسكرية دفاعاً عن الدولة الخليجية، في حال تعرّضها لهجوم على أراضيها المعترف بها دولياً.
ما المطلوب أميركياً في حال قيام دولة أو عدد من الدول بهجوم استباقي على الغير، أو في حال وقوع اضطرابات داخلية على أراضيها؟ هذان سؤالان جوهريان في ظل النقاشات الجارية بين الرياض وواشنطن بشأن توقيع البلدين اتفاقية أمنية تضفي طابعاً رسمياً على الالتزام الأميركي «الشفوي» بأمن الخليج.
التجربة تفيد بأنه في الحالات الثلاث: (عدوان خارجي، حرب استباقية وعصيان داخلي)، اعتادت أميركا، في العقود الطويلة الماضية، تقديم دعم عسكري وسياسي ولوجستي ومخابراتي جدّي للدولة أو الدول المعينة المتورطة، لكن هذا الدعم فيه مشكلتان: أتى في بعض المعارك وليس جميعها، أولاً، ثم إنه حضر على سبيل «الاستحباب» وليس «الوجوب»، ثانياً.
هذان البعدان (التدخل أحياناً، واستحباباً)، وقضايا أخرى تتعلّق بالسلاح ومكانة المنطقة، مشاغل خليجية مطروحة على الطاولة مع أميركا، وهي تزداد إلحاحاً في عالم يتغير، بالنسبة إلى حكومات اعتادت النوم على المخدّة الأميركية.
ثانياً: النموذج البريطاني
يتوق الخليجيون إلى الأيام الخوالي، حين كانت بريطانيا مُستعمِرة لـ«مشيخات الساحل المتصالح»، كما كانت تسمى في الأدبيات البريطانية، المعروفة بدول الخليج، والتي خضعت للاستعمار الإنكليزي بين 1820 – 1970. وقد وفّر البريطانيون لهذه المشيخات نوعين من الحماية:
- الحماية ضد الاعتداء الخارجي، والأمثلة كثيرة على ذلك. وفّرت بريطانيا دعماً للمشايخ الصغيرة: قطر وعمان والبحرين والكويت والإمارات، ضد هجمات سعودية حصلت بالفعل، أو كانت على وشك الوقوع، وعاقبت البحرين وأبو ظبي لهجومهما على قطر (1867)، ووفّرت حماية للكويت ضد تهديدات عبد الكريم قاسم، الذي اعتبر الدولة المستقلّة حديثاً جزءاً من العراق، في 1961، حيث نشر البريطانيون مئات من الجنود فيها.
- الحماية ضد التحدّيات الداخلية. صحيح أن النوع الأول من الحماية - ضد تهديدات الخارج - أتاح للمشيخات أن تركّز إمكاناتها العسكرية لبسط سلطتها على أراضيها، وإخضاع القبائل والقوى المنافسة لها ولجم المعارضين، إلا أن بريطانيا قدمت سنداً مباشراً للمشيخات ضد التهديدات المحلية. فقد نشر الجيش البريطاني قواته للمساعدة في قمع الاحتجاجات التي عمت البحرين عام 1956، ثم ساهم الجنود البريطانيون في دحر ثورة ظفار في عُمان.
ما تأمله الدول الخليجية من أميركا، توفير حماية شبيهة، ويضاف إليها خدمات أمنية أخرى، ليس على قاعدة «الاختيار»، وإنما على أساس «اللزوم». ويبقى السؤال عن الثمن والمقابل الذي سيحصل عليه الأميركي؟
ثالثاً: مصادر التهديدات للخليجيين
بالاستناد إلى النموذج البريطاني الذي نفترض أن الخليجيين يحنّون إليه، أو يعتبرونه النموذج القدوة، يمكن الاستشهاد بـ«معاهدة السلام العامة لعام 1820»، وهي من أشهر المعاهدات بين البريطانيين والمشيخات. فقد وفرت حماية للإمارات الصغيرة، وعاشت المنطقة بعدها قدراً واضحاً من السلام، أو بعبارة أدق، الخضوع للضوابط التي رسمها الاستعمار.
وسيكون مفاجئاً حين يتضح أن التهديدات التي كانت تواجهها المشيخات، وأرادت المعاهدات المتتالية ردعها، تأتي من المشيخات ذاتها، أكثر مما تأتي من الجوار العثماني أو الفارسي، فكل مشيخة تهدّد الأخرى، وتغزوها، وقد جاءت المعاهدة المذكورة لتلزمها (المشيخات) بعدم اعتداء بعضها على بعض، تحت طائلة العقاب الإنكليزي، كما ألزم ابن سعود، وفق «معاهدة دارين»، لعام 1915، بعدم التجاوز على أراضي تلك المشيخات وسواحلها. ومنعت بريطانيا آل سعود من الهجوم على البحرين في 1859، وعاقبت حاكمَي أبو ظبي والبحرين لشنهما حرباً على قطر في 1867.
في العقود التي أعقبت الاستقلالات، لا نعرف أن اليمن أو مصر أو إيران أو تركيا أو الهند، شنت حروباً على أيٍ من الدول الخليجية الأصغر منها، وحتى في ذروة الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988)، وهي حرب لم تُدرس كفاية آثارها المدمّرة للمنطقة، والتي مدّت فيها الرياض وشقيقاتها، في ظل رعاية أميركا، صدام حسين بكل ألوان السند الممكنة. عملت إيران على توجيه نيرانها على قوات صدام المعتدية دون سواها. لكن غزو صدام للكويت لا يمكن تجاهله، لأنه «منتج خليجي - أميركي«، ونتاج عقلية «المشيخات الكبيرة التي تأكل الصغيرة».
وأخيراً، يبدو النموذج القطري فاقعاً. فقد قاد السعوديون انقلاباً فاشلاً في منتصف التسعينيات ضد الحاكم الجديد حمد بن خليفة، لكن ما قاموا به، في 2017، كان أكثر قسوة، ووصل إلى حد التهديد العسكري، الذي تحدث أمير الكويت الراحل، صباح الأحمد، من قلب واشنطن، عن النجاح في إيقافه. ومن دون شك، فإن وجود «قاعدة العديد» في قلب شبه الجزيرة القطرية شكّل الخط الأحمر الذي ما استطاع دونالد ترامب، الذي دعم ابن سلمان وابن زايد في حصار قطر، تجاوزه.
هذه الحقائق دامغة، وعلى السعوديين تقديم إجابات واضحة بشأنها، وهم يتطلّعون إلى توقيع اتفاقية دفاع مشتركة ملزمة لواشنطن بالدفاع عن الرياض.
رابعاً: الحالة البحرينية
الاتفاقية الأمنية مع البحرين التي وقّعت في واشنطن، في 13 أيلول الماضي، تزامناً مع الذكرى الثالثة لـ«اتفاقيات أبراهام» التطبيعية، المبرمة في 15 أيلول 2020، إشارة إلى أن التطبيع يجلب «مكاسب» أمنية للحكومات، ويفتح قلب واشنطن.
لكن، ليس من دليل أكبر على أن هذه الاتفاقية محبطة، من رفض الإمارات - واجهة، ولا أقول قائدة، التطبيع - توقيعها، ما دامت لا تلزم واشنطن عسكرياً بأمن أبو ظبي.
الاتفاقية لا تقدّم جديداً للبحرين، لكنها تضفي «طابعاً رسمياً» على العلاقات العسكرية القديمة بين البلدين.
وما زالت أميركا ترفض توقيع اتفاقية أمنية مع «إسرائيل» تضفي طابعاً رسمياً على التزامها الراسخ بالدفاع عن أمن الاحتلال، لكن النصوص تبقى حروفاً، والمصالح والوضع الجيوسياسي قادرة على تأويل النصوص في الاتجاه المراد، بما في ذلك تفسير المبادرة بحرب استباقية، سعودية أو إسرائيلية، وطبعاً أميركية، على أنها دفاع عن النفس.