(مبارك الفقيه/ راصد الخليج)
صدف أن كنت في عداد مجموعة من الصحفيين الذين زاروا بيروت بعيد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، في العام 1982، حين كان "سويسرا الشرق" – اللقب الذي كان يُطلق على هذا البلد – يعاني خطر الانهيار الشامل في ظل عاصفة من التطوّرات أثقلته.. فجنود الجيش الإسرائيلي كانوا ما يزالون ينتشرون في العاصمة، فيما روائح الجثث المتعفّنة في مخيمي صبرا وشاتيلا، والتي حدثت انتقامًا لمقتل الرئيس الكتائبي اللبناني "بشير الجميل"، تضجّ في أروقة السياسة اللبنانية كما في باريس وواشنطن وتل أبيب.. أما الرئيس الشاب البديل أمين (شقيق بشير) فكان عالقًا بين ألا يعادي إسرائيل وفاءً لتعهّدات أخيه أمام أرييل شارون، وبين ألا يعادي سوريا التي كانت تطبق بانتشارها العسكري على مناطق البقاع والشمال وبعض مناطق الجبل، وبين أن يضع أوراقه كلها في يد واشنطن التي كانت ترسم مستقبلًا جديدًا مع الاتحاد السوفياتي السابق، بعد موت الرئيس ليونيد بريجينف العنيد.
كان الصوت العربي، في تلك المرحلة، ينطلق متحشرجًا بفعل الضغط الأمريكي الذي كان يقمع كل محاولة لإدانة إسرائيل في مجلس الأمن. فقد أسقط الفيتو العديد من المبادرات العربية والأوروبية التي هدفت إلى دفع إسرائيل لتنفيذ القرارات الدولية، ولكن أيًا منها لم يأخذ طريقه إلى النفاذ. فقد كان شارون ومناحيم بيغن يطمحان إلى توقيع اتفاق سلام مع لبنان ليكون الحلقة العربية الثانية بعد مصر في سلسلة تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، ووحدها الرياض طرحت مبادرة من ثمانية بنود حملت اسم "مبادرة الملك فهد" لحل الأزمة، بشكل شامل، انطلاقًا من فكّ العقدة اللبنانية التي كانت بالفعل أكثر العقد اشتباكًا على المستوى السياسي، فيما كانت فلسطين، عرضة لمبضع الاستيطان الذي كان يمعن في القضم التدريجي، ولا سيّما في مناطق الضفة الغربية.
أجمع الأشقاء العرب جميعًا على دعم المبادرة السعودية، وكذلك فعلت واشنطن- ومعها عواصم أوروبا التي كانت في ذلك الوقت تحاذر الانسياق وراء الطموحات الإسرائيلية، وتتّجه إلى تفضيل حصر التمدّد الإسرائيلي في حدود معيّنة داخل فلسطين..
إلّا أنّ إسرائيل رفضت المبادرة، لأنّها تنصّ على المطالبة بالاعتراف بحق الفلسطينيين في إنشاء دولة مستقلّة؛ وقد استدعى هذا الرفض تدخّلًا أمريكيًا باتجاه العرب للبحث في كيفية تدوير الزوايا لتحصيل الموافقة الإسرائيلية بأقل قدر ممكن من العوائق.. كان الفلسطينيون آنذاك قد بدأوا، مرة جديدة، بالسير على درب جلجلة التشتت. فالمقاتلون توزّعوا، في سوريا وتونس واليمن والجزائر وغيرها من الدول، فيما اللاجئون المدنيون يعيشون في العراء بعد أن دمرت إسرائيل مساكنهم في مخيمات بيروت وصيدا وصور، وحائرين بين أن يوافقوا على السكن في الخيم (بناءً على مشروع لبناني) التي تبرّعت بها بعض الدول العربية لإيوائهم ووقايتهم من البرد والمطر في فصل الشتاء، أو أن يشتروا بيوت "الكونتينر" الإسرائيلية الجاهزة التي رأى فيها وزير الإسكان الإسرائيلي مشروعًا تجاريًا مربحًا لإسرائيل من صندوق الأمم المتحدة، أم أن ينتظروا "حلًا ما" قد يحمله ياسر عرفات الذي كان يجول بين العواصم العربية ليفتش فيها عن موطئ قدم سياسي يستطيع من خلالها استئناف "جولات النضال".
الأنظار كلّها كانت متجّهة إلى الرياض، بعد أن فشلت قمم العرب على مستوياتها الكبرى والصغرى بتحقيق أي خرق في جدار الرفض الإسرائيلي المظلّل أمريكيًا. ولم يكن أمام المملكة من بدّ للحد من معاناة الفلسطينيين؛ فعرضت تخصيص طائرات لنقل المقاتلين الفلسطنييين من بيروت، وإرسال المساعدات الغذائية والمعونات الطبية إلى اللاجئين الذين تُركوا لمواجهة مصيرهم المجهول. وهو الدور نفسه الذي تؤديه الرياض، اليوم، حيال المأساة التي يعانيها الفلسطينيون في قطاع غزة بفعل الحرب الدائرة بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي، وهو الموقف نفسه الذي اتخذه ولي العهد "محمّد بن سلمان" بالتأكيد على حلّ الدولتين شرطًا لأي تسوية سياسية بعد إنهاء الحرب المجنونة التي يقودها بنيامين نتنياهو.
يدرك "ابن سلمان" عدم سهولة تنفيذ ما يتطلّع إليه، فاليوم مختلف عن الأمس، وخارطة الأطماع عندى الأطراف متنافسة على الساحة أكبر من أن تُحل باقتراح أو مبادرة تأخذ الطابع المرحلي المؤقت. ومن الواضح أن الرؤية السعودية تختلف كثيرًا عما تحيكه دولة الإمارات التي تندفع بكل قوة في تبنّي الخيارات الأمريكية – الإسرائيلية، لدرجة أنها باتت في موقع واحد مع إسرائيل في نظر الفلسطينيين. وهذا لا يساعد أبدًا في تلمّس ضوء الحل في نفق التعقيدات الراهنة على الساحة الفلسطينية، كما لا يجدر إغفال ما تشكّله هذه التعقيدات من آثار سلبية على استقرار الوضع الاقتصادي والأمني في منطقة الخليج، خصوصًا بعد أن انضم الحوثيون إلى مربّع المواجهة مستفيدين من الأهمية الفائقة التي يمتاز بها مضيق باب المندب البحري في الحسابات الاستراتيجية على المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية.. ولذلك تنأى الرياض بنفسها عن التورّط في التحالف العسكري البحري الذي تقوده واشنطن تلافيًا لازدياد التوتر من جهة، واحتسابًا لما يمكن أن تجرّه التطورات الفلسطينية، من جهة أخرى.
وترجمة ما سبق؛ يدفعنا إلى إلقاء النظر على مصلحة الرياض في مجمل الصورة قياسًا لما يجري على أرض فلسطين والتهديدات التي تنذر باحتمال اشتعال المنطقة. فمشروع "نيوم" (الحلم والمستقبل) المشاطئ للبحر الأحمر على مشارف باب المندب، وعلى البوابة المؤدية إلى إيلات، أصبح في خطر، في حين أن مشروع "ميناء المهرة" الذي يفتح الساحل السعودي الجنوبي على المحيط الهندي سيكون في طريقه إلى ثلاجة المشاريع، أما تدهور العلاقة مع طهران فلن ينتج سوى تكبيل شرايين النفط والضغط على الاقتصاد الداخلي، فضلًا عن إمكان عرقلة الاتجاه السعودي نحو الشرق عبر الانفتاح على بكين وموسكو..
إنها تحدّيات صعبة ترتسم أمام القرار السعودي، فيما تبدو واشنطن يائسة بعجزها عن ضبط الإيقاع الناري غير المسبوق الذي يمارسه المستوى السياسي ومعه العسكري الإسرائيلي حيال قطاع غزة، وعن فرض معادلة حل شامل. ومن جهة ثانية، يعتمر معظم الأشقاء العرب بقبعة الجمود والصمت والاستنكاف عن التحرّك.. أما أبو ظبي؛ فتنشط في خط الالتفاف على أي مسعى سعودي للحل، لأنّ تحقيق أي مكسب في الأهداف التي يطمح لها "ابن سلمان" سوف تنعكس سلبًا على نفوذ الإمارات الصغيرة في الخليج الطامحة إلى تسلّق الجبل..
ومهما يكن من أمر؛ فإنّ الخطوة الأخطر قد تتمثّل في تكرار دائرة التاريخ - كما حصل في العام 1982- فيندفع العرب إلى التنازل أكثر فأكثر كرمى لعيون إسرائيل، وبذلك نقضي على آخر ما تبقى من ذكرى ما يسمّى "القضية الفلسطينية".