مضاوي الرشيد - كلية لندن للاقتصاد-
زار «محمد بن سلمان» واشنطن عدة مرات بهدف التعريف بنفسه في واشنطن والترويج لنفسه على حساب ابن عمه «محمد بن نايف»، الذي كان على علاقة وثيقة مع المخابرات والدفاع الأمريكيين نتيجة دوره في الحرب على الإرهاب منذ 11 سبتمبر/أيلول.
ومباشرة بعد انتخاب «دونالد ترامب» رئيسا للولايات المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016، هرع الأمير الشاب لتهنئته، واعدا إياه بزيادة الاستثمار السعودي في الاقتصاد الأمريكي، وبالمزيد من مشتريات الأسلحة، وقد رحب «ترامب» بكلا التعهدين.
وأثناء الحملة الانتخابية، أعلن «ترامب» في كثير من الأحيان أن الولايات المتحدة لن تواصل دعم شركائها التقليديين في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط دون أن يلتزموا جميعا بمزيد من الموارد المالية لتعزيز الشراكات العسكرية التي تحملتها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.
ولم يتردد في وصف دول الخليج، بما فيها المملكة العربية السعودية، بأنها لا طائل من ورائها باستثناء المال، ولم تؤثر محاولات «ترامب» المتكررة لحظر المسلمين من السفر إلى الولايات المتحدة وخطابه المناهض للمسلمين في الفرص الجديدة التي توقعها هو و«محمد بن سلمان» بافتتاح حقبة جديدة من التعاون الوثيق بين البلدين.
ويبدو أن كلا الزعيمين عازم على العودة إلى الوضع السابق، قبل انتخاب «باراك أوباما»، عندما كانت المملكة والولايات المتحدة تتمتعان بشراكة وثيقة دون خلافات.
ومرت فترة قصيرة من العلاقات المضطربة مع الولايات المتحدة خلال رئاسة «باراك أوباما»، ووصلت العلاقة إلى أسوأ مستوياتها حين رفض «أوباما» الاشتراك مع المملكة والموافقة على مطالبها المستمرة بقصف إيران أو إسقاط «بشار الأسد» في سوريا.
وقدم السعوديون الطلب الأول عام 2008، والثاني بعد اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011، وتعتبر السعودية صفقة إيران النووية التي وقعها «أوباما» وعدد من القادة الأوروبيين عام 2013 تهديدا قويا، حيث تعتبر ذلك إشارة إلى أن الولايات المتحدة عاقدة العزم على إنهاء أربعة عقود من العزلة الإيرانية، وأنها بدأت تنويع علاقاتها في الشرق الأوسط بعد أن اعتمدت على السعودية وتركيا ومصر والخليج و(إسرائيل) كشركاء رئيسيين لها في المنطقة، وعلى الرغم من ذلك، في ظل إدارة «أوباما»، باعت الولايات المتحدة أكثر من 115 مليار دولار من الأسلحة إلى السعودية.
إعادة تعريف الزواج
وفي حين لم يلتزم «ترامب» تماما بالطلبات السعودية بشأن إيران وسوريا، لكنه قدم ما يكفي لكسب القيادة السعودية وإعادة العلاقات المضطربة إلى وئام ما قبل «أوباما»، وقد تصاعد خطاب «ترامب» المناهض لإيران بمجرد انتخابه، وكرر تهديداته بإعادة النظر في الصفقة النووية وربما التخلي عنها، واستعداده لفرض عقوبات جديدة على إيران، ووصفه لإيران بالدولة الإرهابية، وهو ما أسر السعوديين ومهد الطريق لزيارته التاريخية إلى الرياض.
وفي سوريا، وبعد أن أصبح رئيسا للجمهورية، أذن «ترامب» بضربات جوية محدودة أثرت بالكاد على موازين القوى ضد «الأسد»، ومع ذلك، كان هذا التحرك السريع إشارة إيجابية بما فيه الكفاية للرياض لكي تعتقد أن «ترامب» كان في جانبهم بشأن تغيير النظام في سوريا.
وفي 20 مايو/آيار، وصل «ترامب» إلى الرياض برفقة وفد كبير من المستشارين من الأسرة والاستشاريين ورجال الأعمال، وكان موضع ترحيب مع ضجة كبيرة واحتفالات هائلة، وقدم السعوديون لـ«ترامب» فرصة إعادة تأهيل العلاقات، التي تمس الحاجة إليها، ليس فقط داخل السعودية، ولكن في جميع أنحاء العالم الإسلامي.
وكان «محمد بن سلمان» قد جمع أكثر من 50 من القادة المسلمين لحضور القمة، وأعطى الرئيس الفرصة للحديث إليهم في خطاب تاريخي، وكان المقصود من هذا الخطاب مواجهة خطاب «أوباما» الشهير في القاهرة عام 2009، عندما أكد على التزام الولايات المتحدة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم واحترامها للإسلام كدين، وصرح «أوباما» تصريحا تاريخيا بأن الإسلام جزء لا يتجزأ من أمريكا، خاصة أن والده كيني مسلم.
وفي المقابل، أعلن «ترامب» في الرياض ما يلي:
«لقد وقعنا اتفاقيات تاريخية مع المملكة لاستثمار ما يقرب من 400 مليار دولار في بلدينا وخلق آلاف من فرص العمل في أمريكا والسعودية، وينبغي أن تصبح المنطقة واحدة من المراكز العالمية الكبرى للتجارة والفرص، ولا ينبغي أن تكون هذه المنطقة مكانا يهرب منه اللاجئون، ولكن مكانا يتدفق إليه القادمون الجدد».
وفي حين كان «محمد بن سلمان» سعيدا بتأكيد «ترامب» على العلاقات الاقتصادية، فقد كان أكثر حرصا على سماع «ترامب» يرفض إيران، لذلك لابد أنه كان سعيدا عندما سمع «ترامب» يشير إلى دور إيران التخريبي في المنطقة:
«على مدى عقود، غذت إيران حرائق الصراع الطائفي والإرهاب، إنها حكومة تتحدث صراحة عن القتل الجماعي، وتعهدت بتدمير (إسرائيل)، والموت لأمريكا، والخراب لكثير من القادة والدول في هذه القاعة [...] وإلى أن يبدي النظام الإيراني استعدادا ليكون شريكا للسلام، يجب أن يتحد ضمير جميع الأمم للعمل معا على عزل إيران، وإيقاف تمويلها للإرهاب، والدعاء من أجل اليوم الذي يكون فيه للشعب الإيراني الحكومة العادلة الصالحة التي يستحقونها».
وقد أرادت السعودية من «ترامب» أن يعفيها من أي مسؤولية عن أشد الأزمات فتكا في العالم العربي، أي الصراع الطائفي الإرهابي، ولم يذكر «ترامب» كيف لجأت السعودية، مثل إيران، إلى الطائفية كقوة معادية للثورة لعرقلة الانتفاضات العربية في البحرين وسوريا وآخرها في اليمن.
وقد ثبت أن أيديولوجيتها الدينية، المعروفة باسم الوهابية، لا يمكن تمييزها عن تلك التي اعتمدها تنظيم «الدولة الإسلامية»، حيث اعتمد التنظيم النصوص الدينية السعودية في مناهج مدرسة الرقة، وقام بإنفاذ سياسة اجتماعية وطائفية مشابهة لتلك التي تمارس في المملكة، ويشير الخطاب المعادي للشيعة وقطع الرؤوس إلى تقارب أيديولوجي مشترك بين الأيديولوجية الدينية لتنظيم «الدولة الإسلامية» و«الوهابية».
وعلاوة على ذلك، امتنع «ترامب» عن الإشارة إلى الدور الذي لعبته المملكة في نشر هذه النسخة المتطرفة من الإسلام حول العالم.
وكان الدور السعودي قد تم انتقاده منذ 11 سبتمبر/أيلول، لكن «ترامب» لم يحمل المملكة أي مسؤولية عن توسيع الاتجاه الجهادي العالمي، الذي كانت قد دعمته في البداية مع العديد من الحكومات الغربية، ولا سيما خلال أعوام «ريغان» و«تاتشر» في الثمانينات، باعتباره الترياق ضد الشيوعية السوفييتية واحتلال أفغانستان.
وكان تعزيز الوهابية السعودية مشروعا تم تصوره خلال الحرب الباردة، لمساعدة المملكة لاحتلال مكانة اللاعب العالمي في العالم الإسلامي، لكنه كان مفيدا على وجه التحديد في أفغانستان، حيث كان من المتوقع أن يساهم أيديولوجيا وماليا وبشريا في تحرير البلاد من الاحتلال السوفييتي.
ولم يبدو «ترامب» مهتما بالفهم الأعمق لجذور الحركة الجهادية، وقد شعر كل من «محمد بن سلمان» و«دونالد ترامب» بالارتياح إلى طي الصفحة.
ومن الآن فصاعدا، من المقرر أن تعيد العلاقة السعودية - الأمريكية تقديم نفسها على أنها زواج عملي قائم على الارتياح المتبادل، خالية من أي أسس أيديولوجية، مثل المخاوف بشأن حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو أي مصطلحات أخرى تسبب عدم الارتياح لدى الرياض.
ويعد الإصلاح الاجتماعي والسياسي وراء الكواليس، بدلا من التدخل العسكري أو تعزيز الديمقراطية، هو خيار الرياض المفضل.
تحالف المال والسياسة
ومن المهم أن نفهم كيف تمكن الزعيمان من عقد تحالف على خلفية من التوتر والعداء.
ومثل محمد بن سلمان، فترامب لا يمكن التنبؤ به، ويمكن للرجلين الدخول في خلافات طفيفة في المستقبل، ومع ذلك، سيحافظان على واجهة من الاتفاق على القضايا الرئيسية والإبقاء على الصفقة التقليدية، والتي تتمثل في وجوب استمرار الأمريكيين في تقديم دعم غير مشروط ولا لبس فيه إلى السعودية، في حين تستمر الأخيرة في الدفع مقابل الحصول على امتياز البقاء في دور الحليف الرئيسي للولايات المتحدة بعد (إسرائيل) في المنطقة.
وكادت هذه الصفقة حتى وقت قريب تهتز، وربما افتقرت إلى الحماس من قبل الجانب الأمريكي، غير أن «ترامب» و«بن سلمان» لديهما اعتقاد مشترك بأن المال والسياسة وجهان لعملة واحدة، وأن «الاتفاقات المالية» لديها القدرة على حل جميع المشاكل تقريبا، من الإرهاب حتى الاقتصادات الفاشلة.
ويفتقر كلاهما لفهم أعمق للتحديات الراهنة في العالم العربي، ولديهما ازدراء لأي «تفكير عميق»، وشهية لا تشبع لشركات العلاقات العامة وجماعات الضغط وتجميع السلطة.
وحتى الآن، يبدو أن الزعيمين بخير، على الأقل في عدد من القضايا الرئيسية من سوريا إلى اليمن، ولكن في أعماق الإدارة حول «ترامب»، لا يبدو أنها تشاطره الحماس العلني للسياسات الإقليمية السعودية، وفي اليمن وسوريا وقطر، النقاط الساخنة الثلاث في عام 2017، عارض البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية بيانات ترامب المتسرعة، الأمر الذي يدل على وجود تناقضات داخل إدارته، واستعداد أجزاء منها لإجبار الرئيس على التراجع، على الأقل فيما يتعلق بالبيانات المتهورة مثل تلك التي أدلى بها عند زيارته للرياض، حيث تم فهم تعليقاته في ذلك الوقت كتأييد كامل لحروب «محمد بن سلمان» الإقليمية وسياساته التدخلية.
ومع ذلك، في حين استطاع «بن سلمان» الفوز بـ«ترامب»، فإنه لا يزال يواجه أصواتا معارضة في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وفي الماضي، تمكن الرؤساء الأمريكيون الذين يتمتعون بأغلبية واضحة من الحصول على موافقة كلا المجلسين على مبيعات الأسلحة الهامة للمملكة، ولكن منذ 11 سبتمبر/أيلول، لم يعد بالإمكان اعتبار الدعم التشريعي الإيجابي أمرا مفروغا منه.
وبعد أن أغضب السعوديين عندما أطلق عليهم «راكبون بالمجان» في مقابلته الشهيرة، حاول «أوباما» إصلاح العلاقة مع المملكة في الأشهر الأخيرة من منصبه، وفي سبتمبر/أيلول عام 2016، رفض كل من مجلس النواب ومجلس الشيوخ بأغلبية ساحقة الفيتو الرئاسي ضد تمرير قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب (جاستا)، الذي يسمح لأفراد عائلات ضحايا 11 سبتمبر/أيلول بمقاضاة السعودية في المحاكم الأمريكية، وقد يصبح هذا القانون عقبة خطيرة أمام العلاقات السعودية الأمريكية.
وقد عاد التوتر بين الرئيس الأمريكي، «دونالد ترامب» هذه المرة، والكونغرس، عام 2017، بشأن مبيعات الأسلحة إلى السعودية.
وفور عودة «ترامب» من الرياض، تجاوز بفارق ضئيل من الأصوات في مجلس الشيوخ لتمرير صفقة بقيمة 500 مليون دولار لبيع الذخائر الموجهة بدقة للسعودية، وفي ظل الغارات الجوية غير المنتظمة التي قامت بها المملكة التي أدت إلى مقتل العديد من المدنيين في اليمن، ووصول الصراع إلى طريق مسدود بعد 3 أعوام تقريبا من بدئه، ستستمر معارضة مبيعات الأسلحة في النمو بلا شك في الولايات المتحدة.
ويرغب «ترامب» في استغلال لحظة تاريخية تعتزم فيها المملكة الانتقال إلى اقتصاد نيوليبرالي مشرق ومنفتح أمام التجارة العالمية، وتعتبر الخصخصة والتنويع والسعودة العمود الفقري لرؤية «بن سلمان»، وهي خطة لتحقيق الازدهار الاقتصادي، في الوقت الذي تعاني فيه المملكة من هبوط أسعار النفط وعجز الميزانية.
ويتيح التوسع في القطاع الخاص، والأهم من ذلك الخصخصة الجزئية المعلن عنها لشركة النفط السعودية أرامكو، فرصا اقتصادية جديدة يرغب الزعيمان في تعزيزها والاستفادة منها، وإذا كانت المصلحة الوطنية للولايات المتحدة تتطابق مع مصلحة «محمد بن سلمان»، يأمل الزعيمان في التعاون الوثيق في المستقبل.
ومع ذلك، قد لا يكون كلا الزعيمين قادرا على اتخاذ قرارات محددة وواضحة لا تؤدي إلى نتائج عكسية في النهاية.