بشير موسى- القدس العربي-
في حديث للغارديان احتل صفحتها الأولى، أكد ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، على قراره إعادة البلاد للإسلام المعتدل الذي كانت عليه.
قال الأمير إن الاتجاه المحافظ المتشدد طارئ على المملكة، ويرجع إلى الثلاثين عاما الماضية فقط، وإنه وليد المناخ الذي صنعته الثورة الإيرانية ورغبة البعض في استلهامها.
لم يتردد بن سلمان في الإشارة إلى أن قادة المملكة السابقين لم يستطيعوا التعامل مع الظاهرة كما يجب، وأنه عقد العزم على أن يضع نهاية لها.
«الذي حدث في الثلاثين عام الماضية لم يكن العربية السعودية. الذي حدث في المنطقة لم يكن الشرق الأوسط. بعد الثورة في إيران في 1979، برز أناس أرادوا استنساخ النموذج في بلدان أخرى، كانت السعودية واحدة منها. لم نعرف كيف نتعامل معها (الظاهرة). وانتشرت المشكلة عبر العالم كله. الآن، حان أوان التخلص منها»، جادل الأمير.
وأضاف، «نحن ببساطة نعود لما كنا نتبعه، الإسلام المعتدل، المنفتح على العالم والأديان الأخرى.. لن نضيع ثلاثين عاماً أخرى من حياتنا في المواجهة مع الأفكار المتطرفة؛ سوف ندمرهم، الآن وفوراً».
هذا جوهر ما جاء في مقابلة ولي العهد، النادرة، في 25 أكتوبر/ تشرين أول، التي أثارت اهتماماً واسعاً. وكان الأمير بن سلمان قال كلاما مشابها في اليوم السابق، خلال حديثه إلى المؤتمر الاقتصادي الدولي، الذي عقد في الرياض، وتناول مخططات لمشاريع عملاقة، يبدو أن الأمير بصدد تنفيذها، وتحمل أبعاداً اجتماعية وثقافية، وليس اقتصادية فقط.
لكن بن سلمان كان أكثر وضوحاً في حديثه للمؤتمر منه في مقابلة الغارديان، على الأقل في تحديده لمن يقصد بالمتشددين، المحافظين، والمتطرفين، مؤكدا أن أصل كل الشرور يرتبط بموجة «الصحوة».
ما يقوم به الأمير محمد بن سلمان، في الحالتين، ليس سياسة وحسب، بل وتاريخاً، أيضاً. يعلن سمو الأمير، الذي يبدو أنه بات صاحب القول الرئيسي في المملكة، عن سياسات معينة، ويسوغ هذه السياسات بروايته الخاصة لتاريخ المملكة في العقود القليلة الماضية.
ثمة مشكلة في المملكة، يقول بن سلمان، وهذه المشكلة وثيقة الصلة بما يعرف بظاهرة الصحوة والصحويين؛ وأن صعود هذه الظاهرة هو ما أطلق مناخ التشدد والتطرف، الذي أصاب السعودية والشرق الأوسط، وانتشر من ثم في أنحاء المعمورة. فإلى أي حد تنطبق رواية ولي العهد السعودي مع التاريخ المعروف للمملكة؟
ولدت الدولة السعودية الأولى، التي استمرت منذ منتصف القرن الثامن عشر إلى العقد الثاني من القرن التاسع عشر، من تحالف جمع دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب مع أمير الدرعية محمد بن سعود. وليس ثمة شك أن دعوة ابن عبدالوهاب أثارت جدلاً كبيراً في منطقة نجد وما خلفها من الجزيرة العربية، لما تضمنته من خروج على التقاليد الإسلامية السنية.
لم يعارض الشيخ أغلبية علماء نجد، وحسب، بل ووالده وشقيقه، أيضاً. ولكن دعوة ابن عبدالوهاب سرعان وجدت صدى بين طلاب علم شباب في نجد، بفعل تصميم الشيخ والطبيعة التطهرية لأفكاره، من جهة، وللتحالف مع الأمير المحارب، وقوة السلاح التي فرض بها مفاهيم وقيم الدعوة، من جهة أخرى.
وهذه الخاصية، خاصية التحام دعوة إسلامية متشددة وراديكالية بالحكم والقوة المسلحة، هي التي أعطت الحركة الوهابية ـ السعودية خصوصيتها من البداية.
في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، قضت حملة محمد علي، والي مصر العثماني، على الدولة السعودية الأولى، بعد أن أصبحت تشكل تهديداً لأمن الحج والجزيرة والجوارين العراقي والشامي.
بعد سنوات قليلة، ولتراخي القبضة المصرية ـ العثمانية، أعاد السعوديون بناء الدولة من جديد في نجد. واستمرت الدولة الثانية إلى تسعينيات القرن التاسع عشر، عندما قُضِي عليها في الصدام مع آل الرشيد، حكام حائل.
وإن كانت المفاهيم التي أسست للدولة الأولى اتسمت بالتشدد، فقد كانت كتابات الجيلين الثاني والثالث من العلماء الوهابيين في القرن التاسع عشر أكثر تشددا، نظرا للمعاناة التي عاشها هؤلاء العلماء بعد سيطرة قوات محند علي، وللصراعات الداخلية، الدموية والمديدة، التي عاشتها الدولة الثانية.
في 1903، استطاع الشاب عبدالعزيز آل سعود القضاء على حكم آل الرشيد في الرياض، ووضع نواة الدولة الثالثة. لكن عبدالعزيز لم يستطع توسيع نطاق سيطرته في الجزيرة العربية إلا بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب الأولى، وخلال السنوات القليلة التالية لنهاية الحرب.
في 1932، بعد سلسلة حروب استطاع خلالها السيطرة على كامل نجد، كما على الإحساء والحجاز وعسير، أعلن عبدالعزيز ولادة المملكة العربية السعودية في حدودها الحالية.
كان أغلب العلماء الذين شاركوا عبدالعزيز مشروع الدولة الثالثة من أبناء مدرسة القرن التاسع عشر، بالغة التشدد والانطواء على الذات؛ وكانت طليعة عبد العزيزالمقاتلة، قواته الخاصة، إن صح التعبير، وهم الشبان المحاربون من أبناء الهجر، الأكثر نقاء أيديولوجياً والأكثر إخلاصاُ لتعاليم الدعوة.
لكن الدولة الجديدة وجدت في ظل نظام دولي مختلف، عماده سيادة الدولة على حدودها وشعبها، وفي عصر صعود الإمبرياليات الغربية وهيمنتها على الجوار الشرق أوسطي، وفي عالم من التقدم الهائل في وسائل الاتصال. وهذا ما جعل الصدام بين عبدالعزيز، الحاكم المؤسس للدولة الثالثة، وقطاع كبير من أتباعه وعلماء دولته، حتمياً.
بعد السيطرة على المدن الحجازية، الأكثر ليبرالية، في 1924 ـ 1925، احتوى عبدالعزيز فجاجة أتباعه، ومحاولتهم فرض تصورهم للدين والاجتماع الإسلامي، بتأسيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بمعنى، أنه جعل مسؤولية فرض مفاهيم الدعوة وقيمها مسؤولية الدولة، لا الأفراد.
وعندما رفض الأتباع احترام حدود العراق والأردن وسوريا، التي وقعت تحت سيطرة بريطانيا وفرنسا، خاض عبدالعزيز حرباً مريرة ضد إخوان الدعوة في نهاية العشرينيات.
بذلك، على أية حال، ولد تقليدان رئيسيان في المؤسسة الوهابية:
- الأول، الذي احتفظ بذاكرة القرن التاسع عشر المؤلمة، عندما أطيح بالدولة ـ الدعوة وقتل أمراؤها وشرد علماؤها، واعتبر أن طاعة ولي الأمر والحفاظ على الحكم والاستقرار مقدم على أي شأن آخر.
- الثاني، ظل وفياً لأيديولوجيا الدعوة ومفاهيمها الأصلية.
ليس ثمة خلاف جوهري بين ثقافتي الطرفين، ولا تعارض كبير بين النصوص التي يستند إليها كل منهما. كلاهما وهابي. الخلاف يتعلق بالتعبير السياسي عن هذه المفاهيم والنصوص في سياق الدولة الجديدة. ونظرا لأن أصول التيارين واحدة، وجدت دائماً منطقة رمادية، يصعب فيها التعرف على حدود كل منهما.
رسم هذان التياران ملامح المملكة الإسلامية طوال ما يقارب القرن من تاريخها الحديث:
- مؤسسة علماء وهابية رسمية، مطيعة وموالية.
- معارضة وهابية، تأخذ تجليات مختلفة من وقت إلى آخر، من الاحتجاج على إدخال وسائل الاتصال الحديثة، الراديو والتلفاز، فتح مدارس للبنات، انتشار الخبراء الأجانب في أنحاء البلاد، وصولاً إلى احتلال الحرم وإعلان نزع الشرعية عن الحكم، في نهايات 1979، وحرب القاعدة وأخواتها على نظام الحكم وحلفائه، في العقدين الأخيرين.
تيار الصحوة كان شيئاً مختلفاً، سواء في القاعدة الاجتماعية التي ارتكز إليها، أو في خطابه ومطالبه. هؤلاء، علماء كانوا أو مهنيين، أبناء التعليم الحديث، وثقافة شفافية الحكم والمشاركة الشعبية، الذين فهموا الشرعية بطريقة مختلفة عن علماء المؤسسة الرسمية أو المعارضين الأوفياء لنقاء الدعوة وتعاليمها.
تمحورت هموم الصحويين، كما طرحت مذكرة النصيحة في 1992، التعبير الأكثر تجلياً للتيار، حول طبيعة الحكم، احتكار الثروة والسلطة، رفع يد الدولة عن الدين، وحقوق الشعب.
وهؤلاء هم الذين يزج بهم محمد بن سلمان في السجون اليوم؛ ليس لتشددهم وتطرفهم، لأنهم هم الأبعد عن التطرف والتشدد، ولكن لخطرهم السياسي.
المؤسف في كل هذا أن تجد رواية الأمير التاريخية الخاصة، وسياساته، ترحيباً في الأوساط الغربية، بما في ذلك الليبرالية منها؛ وأن تستخدم الغارديان، إحدى قلاع الليبرالية البريطانية، ميداناً دعائياً للتاريخ المتخيل وإجراءات القمع، بدون أي تحد جاد، تفرضه التقاليد الصحافية المتعارف عليها.