بشير عمرون- DW عربية-
في خطوة غير مسبوقة، ولي العهد السعودي يوقف أمراء سعوديين نافذين ووزراء ومسؤولين. دسائس القصر تزلزل البلاد، لكنها قد تكون آخر فرصة للسعودية التي تعاني أزمة مالية خانقة كما يرى بشير عمرون في هذا التعليق.
مهما كان موقفنا منه إلا أنه يجب الاعتراف له بشيء: فرغم اتهامه بالتهور وقلة الخبرة، يتمتع الرجل بحس قوي بالقرارات التي تصنع التاريخ ويعرف جيدا كيف يسوقها إعلاميا. الحديث هنا عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي يخلق الحدث باستمرار بقراراته المدوية التي تمثل انقلابا على سياسة بلاده الحذرة تقليديا: بداية بحرب اليمن التي أطلقها بدون ضرورة ضد أفقر دولة عربية، ومرورا بصفقة الخمسمائة مليار دولار التاريخية مع الولايات المتحدة الأمريكية أثناء زيارة ترامب للرياض وحصار قطر غير المسبوق، ووصولا إلى مشروع نيوم بمدينته المستوحاة من أفلام الخيال العلمي التي يود تشييدها على ساحل البحر الأحمر، إضافة لإعلانه تخلي بلاده عن الإسلام المتطرف - وهو ما يمثل قطيعة صارخة مع عقيدة الدولة في السعودية.
والآن طالت مغامرات الأمير، البالغ من العمر 32 عاما فقط، العائلة الملكية نفسها، ففي عملية سرية أطلقها في كنف الليل، اعتقل بن سلمان 11 أميرا من أقطاب السياسة والاقتصاد في البلاد، إضافة إلى 4 وزراء حاليين وعشرات الوزراء السابقين والمسؤولين الكبار ورجال الأعمال الأثرياء وجمد أموالهم بتهم الفساد. وبهدف إضفاء نوع من الشرعية المؤسساتية على هذا القرار المثير للجدل، أسس محمد بن سلمان ساعات فقط قبل إطلاق حملة الاعتقالات لجنة عليا لمكافحة الفساد تضطلع بصلاحيات واسعة وتتمتع باستقلالية تامة عن المؤسسات الأخرى في الدولة ويترأسها هو شخصيا.
العقبات الأخيرة في الطريق إلى العرش
تضم العائلة المالكة السعودية ما يقارب 10 آلاف أمير وتعد بذلك الأكبر في العالم. لكن أولئك الذين لديهم طموح سياسي واقعي يعدون على رؤوس الأصابع. أهمهم حُيد السبت الماضي: متعب ابن الملك السابق عبد الله كان يشغل حتى اعتقاله منصب وزير الحرس الوطني الذي يعد النواة التاريخية للجيش السعودي وتكمن مهامه الأساسية في حماية العائلة المالكة وقمع التمردات.
ولفهم خطورة دور متعب يجب معرفة أن الحرس الوطني الذي كان تحت يده يمثل جيشا موازيا للقوات المسلحة السعودية يتمتع بتسليح حديث ويملك هيكلا قياديا منفصلا، كما يضم حوالي 200 ألف فرد يتم اختيارهم حسب ولائهم القبلي للعائلة المالكة ويكنون للوزير ولاء شخصيا. حجم هذه السلطة يفسر تجرؤ متعب في يوليو الماضي على رفض إقالته من قبل محمد بن سلمان كما أفادت آنذاك تسريبات على تويتر لمصادر مقربة من العائلة المالكة.
التخلص من متعب هو في الحقيقة تكملة لخطة القضاء على أي خطر مباشر يهدد ولي العهد من داخل الأجهزة الأمنية، سبقها في نهاية يونيو الماضي عزل أكبر وأخطر منافس له على العرش ووضعه تحت الإقامة الجبرية: محمد بن نايف الذي كان حينها وليا للعهد ووزير الداخلية المتنفذ في كل المفاصل الأمنية للدولة. ولكون محمد بن سلمان يشغل، منذ تولي والده الحكم في 2015 منصب وزير الدفاع، بات الآن يسيطر على كافة الأجهزة الاستخباراتية والأمنية في السعودية، ما يمثل هو الآخر خروجا عن أعراف الحكم في العائلة المالكة، التي كانت دوما تسعى للحفاظ على توازن القوى بين فروعها المتصارعة عبر توزيع قيادة الأجهزة الأمنية المختلفة عليها.
تخلص الأمير الطموح أيضا من منافسيه في مجال الاقتصاد وخاصة في الإعلام الذي يعد حيويا للترويج لسياسته. فبين من طالتهم اعتقالات السبت الماضي الأمير الوليد بن طلال الذي يعد من أثرى السعوديين على الإطلاق وصاحب إحدى أكبر الإمبراطوريات الإعلامية في العالم العربي، بالإضافة إلى إمبراطور الإعلام العربي الآخر الوليد بن إبراهيم رئيس شبكة MBC.
متعطش للسلطة، لكنه يملك رؤى
بالرغم من أن الاعتقالات انتقائية وبعيدة كل البعد عن الشفافية ودولة القانون، إلا أن قليلين سيتحسرون على مصير الموقوفين الذين لا يشكك أحد في فسادهم. بل أكثر من ذلك، فحزم محمد بن سلمان سيرفع شعبيته وسط مجتمع يتذمر بشكل متنام من الفساد الذي ينخر البلاد ويتسبب في خسارة مائة مليار دولار سنويا وهو ما يعادل ربع ميزانية الدولة. علاوة على ذلك فإن المواطنين العاديين ضاقوا ذرعا بالعيش تحت نظام قانوني جائر يطبق عليهم أبشع العقوبات، في الوقت الذي يتغاضى فيه عادة عن فرضها على أفراد العائلة المالكة، لذا ستشعر الغالبية بالارتياح لتطبيق القانون على عدد غير مسبوق من هذه الفئة الطفيلية التي يعانون من امتيازاتها غير المشروعة.
وحتى إذا كان محمد بن سلمان لم يبد أي اهتمام بإصلاحات ديمقراطية وخطواته تهدف في المقام الأول إلى تركيز السلطة في يده، غير أن تسلقه السريع والمذهل لهرم السلطة تم عبر عزل أولئك الرجال الذين ساهموا في صناعة الدولة السعودية الرجعية والمتطرفة التي نعرفها وما زالوا يدافعون عنها. أما بن سلمان، فيسعى، على الأقل حسب تصريحاته، إلى تغيير البلاد بشكل جذري عبر التخلي عن الإسلام المتطرف والتحرر من التبعية النفطية وبناء اقتصاد متنوع وحديث وإشراك الشباب، الذين يمثلون ثلاثة أرباع المجتمع، في عملية اتخاذ القرار. كل هذه الأفكار جمعها الأمير في مشروع أسماه رؤية 2030. والآن صار مصير البلاد مرهون بالنجاح في تحقيق هذه الرؤية، ففي حال فشلها قد تختفي السعودية عن الوجود، وذلك لتحديات مصيرية لا تنحصر فقط في عجزها الضخم في الميزانية والذي يبلغ 200 مليار دولار سنويا.