عادل عبد الغفار | معهد بروكنغز الدوحة -
حينما استيقظ الأمير متعب بن عبد الله، الوزير السابق للحرس الوطني السعودي النافذ، من نومه يوم السبت 4 نوفمبر في قصره، لعلّه لم يخطر في باله أنّه مع نهاية اليوم سيتعرّض للاعتقال وسيُجرّد من منصبه، وأنه سينضمّ إلى قافلة من الاعتقالات شملت عدّة أمراء وتكنوقراطيين ورجال أعمال بارزين آخرين في حملة تطهير لا سابق لها.
وأتت هذه الاعتقالات، التي هزّت كيان المملكة العربية السعودية والمنطقة بأسرها، وليدةَ أفكار وليّ العهد محمّد بن سلمان في خضمّ سعيه إلى إنشاء نظام سياسي جديد. وتبعث هذه الاعتقالات بإشارات هامّة لمؤسّسات الدولة الدينيّة والسياسيّة وإلى مواطنيها الشباب الكثر. لكن هل سينجح الأمير في تعزيز السلطة على المدى الطويل؟
استهداف ثلاث مجموعات
يوم السبت 4 نوفمبر، أصدر العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز مرسومًا بتأسيس لجنة لمكافحة الفساد يرأسها الأمير محمّد بن سلمان الذي سرعان ما باشر بمهمّته بعد ساعات من هذا الإعلان. وبشكلٍ عام، يُمكن تقسيم الشخصيّات المستهدَفة إلى ثلاث مجموعات كبرى.
أولًا، تمّ اعتقال أحد عشرَ أميرًا، بمَن فيهم متعب بن عبد الله وأخوه غير الشقيق تركي بن عبد الله (أمير منطقة الرياض السابق) ورجل الأعمال البارز الوليد بن طلال. وقد توفي أيضًا الأمير منصور بن مقرن، ابن وليّ العهد السابق ونائب أمير منطقة عسير، في حادث مروحيّة مريب في اليوم التالي للاعتقالات.
ثانيًا، تعرّض عدد من التكنوقراطيّين والمسؤولين غير الملكيّين إلى الاعتقال أيضًا، وشملوا حتّى الآن خالد التويجري، الرئيس السابق للديوان الملكي السعودي في عهد الملك عبد الله، وعادل فقيه، وزير الاقتصاد والتخطيط السابق، وإبراهيم عبد العزيز العسّاف، وزير الماليّة السابق.
أمّا المجموعة الثالثة، فتضمّ رجال أعمال ورؤساء شركات. ومن أبرز مَن اعتُقل صالح كامل، رئيس مجموعة راديو وتلفزيون العرب ART ومجموعة دلة البركة، وبكر بن لادن، رئيس مجموعة بن لادن السعودية، وعمرو الدبّاغ، المدير التنفيذي لمجموعة الدبّاغ القابضة.
إشاراتٌ للمكوّنات الأساسية
تهدف الاعتقالات التي جرت في هذه المجموعات الثلاثة الكبرى إلى إرسال إشارات هامّة لعددٍ من المكوّنات الأساسيّة في المجتمع السعودي.
أوّلًا، من خلال استهداف أمراء أبرز وأعلى شأنًا، يبعث محمّد بن سلمان إلى العائلة المالكة وأمرائها المقدّر عددهم بـ 15 ألف أمير برسالة مفادها أنّ النظام القديم المبني على التوافق وترتيبات تشاطر السلطة السابقة بين مختلف فروع الأسرة الحاكمة أصبح من الماضي.
وفي النظام السياسي الجديد، ستتركّز السلطة في قبضة الملك ووليّ العهد. وقد أحكم محمّد بن سلمان سيطرته على كلّ الفروع الأمنية والدفاعية في أجهزة الدولة، من الجيش إلى الشرطة، والآن الحرس الوطني. والرسالة واضحة: رابط الدم لا يضمن الأمان، فإمّا الانضمام إلى النظام الجديد أم التعرّض للتطهير.
ويشكّل اعتقال تكنوقراطيّين ورجال أعمال إشارةً للقطاعَين العام والخاص بأن لا أحد منزّه. فقد تمكّن سابقًا إداريون غير ملكيّين، مثل خالد التويجري، من كسب سلطةٍ واسعة ومن تحصيل ثروة طائلة جدًّا لهم ولعائلاتهم فغدوا شبه ملوك.
واستطاع رجال أعمال سعوديون، من بينهم وزراء سابقون مثل عمرو الدبّاغ، أن يستخدموا معارفهم في الحكومة ليُبرموا صفقات مربحة في ظروف مريبة في بعض الأحيان. والرسالة في هذا الإطار أيضًا واضحةٌ: لن يتحمّل محمّد بن سلمان تكنوقراطيّين ورجال أعمال يعتبرون أنفسهم فوق القانون. ومن ناحية أكثر عمليّة، يمكن لمصادرة أصول المُعتقلين أن تضخّ مليارات الدولارات في الخزينة السعودية.
طبعًا، ستُطبّق قوانين الشفافية ومكافحة الفساد بصورةٍ انتقائيّة، فلن تطال وليّ العهد والمقرّبين إليه، علمًا أنّ شراء وليّ العهد والملك سلمان يختًا قيمته 550 مليون دولار لمجرّد نزوة في أثناء قضاء عطلة في جنوب فرنسا وغيره من البذخ يلقي بظلاله على السعي إلى المزيد من الشفافية والمساءلة، في بلدٍ قد يُعدّ التعبير عن الرأي تصرفًا خطيرًا. وفي الشهر الماضي، ألقت السلطات القبض على ثلاثين رجل دين ومفكّرًا وناشطًا، بما وصفته منظّمة حقوق الإنسان هيومن رايتس ووتش “قمعًا للمعارضة”.
أميرٌ شابّ لشعبٍ شابّ
أخيرًا، ترسل الاعتقالات إشارة هامّة لمكوّن أساسيّ في المجتمع السعودي بالنسبة إلى محمّد بن سلمان، ألا وهو الشباب السعودي. فقد شكّل الفساد في المملكة مسألةً شائكة طوال عقود، وتشير الاعتقالات إلى جدّية محمّد بن سلمان في موضوع مكافحته (بصورةٍ انتقائية).
والجدير بالذكر أنّ قرابة نصف المجتمع السعودي هم من الفئة الشبابية لا يتخطّى عمرهم 25 سنةً، ومن المتوقّع أن تفوق بطالة الشباب نسبة 42 في المئة بحلول العام 2030. وبحسب صندوق النقد الدولي، لن يتمكّن تزايد فرص العمل من مجاراة تزايد أعداد الشباب السعودي.
ويدرك وليّ العهد الذي يبلغ 32 من العمر أنّ كسبه تأييدَ هذا العنصر الأساسي في المجتمع أمرٌ محوري لتحقيق طموحاته. إذ يعتبر الشبابُ السعودي أنّ المشاكل الاقتصادية، بما فيها البطالة والفساد، وتحفّظ المملكة الاجتماعي مسألتان هامّتان. من هنا، تأتي خطّة المملكة الإنمائية الطموحة، المعروفة باسم “رؤية السعودية 2030” والمستوحاة من تقرير نشرته شركة “ماكينزي” الاستشارية، محاوَلةً لمعالجة هذه المسائل وغيرها، وإن بوتيرة سريعة.
وتُتابع إجراءات القمع المستمرّة هذه الجهود. وحتّى الآن، لاقت الاعتقالات رضى الشباب والمجتمع بشكل عام.
وأحد التحدّيات الكبيرة التي سيواجهها محمّد بن سلمان في عملية تعزيز السلطة في خلال العقد الآتي هو نجاح رؤية 2030 أو فشلها والتحوّل الاقتصادي الجاري في المملكة. فإذا استطاع أن يفي بالوعود الاقتصاديّة التي قطعها للشعب السعودي، قد تدعمه شعبيّته ضدّ أيّ معارضة داخلية. وإن فشلت رؤيته، فقد يفسح عدم رضى الناس عنه المجال أمام النخب المحرومة من حقوقها لكي تطعن في حكمه.
ولا تبشّر الاعتقالات بالخير للبيئة الاستثمارية في المملكة، وقد يكون لها تأثيرًا اقتصاديًا سلبيًا. إذ سيفكّر المستثمرون من الخارج مرّتين قبل أن يبرموا اتّفاقيات تجارية مع شركات سعودية أو رجال أعمال سعوديين قد يخسرون نفوذهم أو يُحاكمون في أيّ وقتٍ لاحق.
مواجهة المؤسّسة الدينيّة
علاوة على النظام السابق المبني على التوافق الذي سرى لدى آل سعود، يشكّل التحالفُ بين آل سعود ورجال الدين الوهابيّين الذين أمّنوا شرعيّةً دينيّة لحكمها الدعامةَ السياسيّة الأخرى في المملكة. ويواجه هذا التحالف ضغوطًا متزايدة. فكجزءٍ من النظام السياسي الجديد، أظهر محمّد بن سلمان استعداده لمواجهة المؤسّسة الدينية مع محاولته إدخال الليبرالية في المجتمع السعودي و”العودة إلى الإسلام المعتدل” بحسب قوله.
لقد سبق أن حدّت الحكومة من صلاحيات الشرطة الدينية الشهيرة (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وقد أعلنت أنّها ستسمح قريبًا للنساء بالقيادة، وأتاحت المزيد من خيارات الترفيه. وفيما تسعى الحكومة إلى إحداث هذه التغييرات الشعبيّة بالإجمال، قد تواجه ردود فعل من المؤسّسة الدينيّة والعناصر المحافظة في المجتمع.
لا نجاح بدون مخاطر
لا شكّ في أن محمّد بن سلمان قد أظهر اندفاعًا كبيرًا في مواجهة التحدّيات بشكل مباشر على عددٍ من الجبهات المحلّية والدولية، مما قد يوقعه في خطر الفشل لمحاولته تحقيق أكثر مما يقدر عليه.
ففي الداخل، هو يواجه آل سعود والمؤسّسة الدينية ورجال الأعمال. وفي الخارج، ما زالت نار الحملة السعودية في اليمن مستعرة والمشاحنة مع قطر مستمرّة.
وتظهر بعض المؤشرات حاليًّا أنّ وليّ العهد وضع حزب الله نصب عينيه أيضًا. وتجري هذه الأحداث كلها بالتزامن مع محاولةٍ تاريخية بإعادة ترتيب الاقتصاد السعودي. لذلك، ستشكّل مواجهة كلّ هذه المسائل في الوقت عينه تحدّيًا متزايد الصعوبة.
وبحسب زميلي بروس ريدل، قد يولّد انعدام التوافق داخل الأسرة الملكية “مملكةً أقلّ استقرارًا مع سياسات أكثر عشوائية وتهوّرًا”.
وفيما ستساعد الاعتقالاتُ محمّدَ بن سلمان على إحكام قبضته على السلطة على المدى القريب، ستسبّب احتكاكاتٍ داخل الأسرة الملكية، وبين كبار رجال الأعمال أيضًا ستؤدّي على الأرجح إلى تأزّم الوضع في مرحلةٍ لاحقة. فإذا نجح محمّد بن سلمان في ضبط محيطه داخليًّا وإقليميًّا، سيتربّع على عرش هذا النظام السياسي الجديد لعقودٍ طوال. أما إذا فشل في الوفاء بوعوده، فهو يتّجه نحو فشل ما بعده فشل.