مبارك الفقيه- خاص راصد الخليج-
شهد الرابع من نيسان / أبريل سنة 1968 اغتيال الثائر الأمريكي مارتن لوثر كينغ الإبن عن عمر لم يتجاوز الـ 37 عاماً، هذا الزعيم الأمريكي ذو الأصول الأفريقية آمن بالحرية ورفض استعباد العرق الأبيض للعرق الأسود، وعمل على استنهاض السود المضطهدين في أمريكا لنيل حقوقهم المهدورة والتحرّر من قيود فرضها نظام عنصري ظالم قائم على التفرقة والاستيطان واضطهاد الشعوب، واتّبع مقاومة اعتمدت مبدأ "اللا عنف" على طريقة المهاتما غاندي.
قاد مارتن مظاهرات العمال السود، وواجه في تلك الفترة حملات تضييق ممنهجة، وتعرّض للسجن والتعذيب في السجون الأمريكية، ولكنه لم ييأس خصوصاً بعد أن لاقت دعوته تأييد أبناء جلدته الذين كانوا يعملون في قطاع الخدمات تحت إمرة البيض، وكان يتحّضر لتنظيم إضراب لجامعي النفايات في المدن الأمريكية الرئيسية، ولكنه اغتيل لتندلع ثورات وأعمال عنف شاملة، وشهدت شيكاغو وبوسطن وواشنطن ونيويورك وحدها اندلاع 620 حريقاً، وكانت هذه الأعمال ذريعة كافية لقيام السلطات الأمريكية بشن حملات اعتقال ضخمة لوأد ثورة السود، وفرض حظر التجوّل.
قبع الناس في منازلهم، ولكن الغليان ما زال يعتمل في النفوس، وكان لا بد من ابتداع طريقة لتهدئة الجماهير الغاضبة، واحتواء موجة التعاطف مع السود، والتي سادت بين البيض أنفسهم، لا سيما أن شاشات التلفزة كانت تعرض ما كانت ترتكبه قوات الأمن الأمريكية، ولم يعد بالإمكان إنكار ما يجري، فما العمل؟!
جاء الحل بإفتتاح محطات تلفزة جديدة، وتمديد فترة البث على مدى 24 ساعة، وانتاج برامج خاصة تجمع بين السود والبيض تدعو إلى التعايش والسلام، ونشطت برامج الترفيه التي تضمّنت نقلاً مباشراً للمباريات التي كانت تجري في الملاعب، فضلاً عن تكثيف برامج الغناء والموسيقى والرقص، وشيئاً فشيئاً بدأت السلطات ترفع نظام حظر التجوّل، لينطلق الناس بعد فترة من الإقامة الإجبارية إلى حضور حفلات جماهيرية أقيمت في ملاعب كرة القدم، قدّم فيها فنانون بيض وسود أغاني لها الطابع الوطني وعامرة بحب الحياة ورفض العنف والتأكيد على التعايش، وترافق هذا المسعى مع فرض إجراءات عسكرية ظاهرة، وأعمال استخبارية نشطة شملت التنصّت على الهواتف والمراقبة الميدانية.
هذا الواقع شهده عقدا الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ولكننا اليوم نلحظ صورة مقتبسة عن هذا النشاط، مع اختلاف في المكان والزمان والهوية والظرف، فبعد سنوات طويلة من القمع الفكري والتضييق الفردي والجماعي بذريعة فرض الأحكام الشرعية، وبعد عقود من الضخ الثقافي والإعلامي وإحكام السيطرة على مقاليد النظام من قبل نادي الدعاة الوهّابي، ها هي المملكة العربية السعودية تشهد ثورة جديدة وشاملة، عنوانها الانفتاح والانطلاق إلى العالم الجديد، في حين تتحضر المرأة لتشحن الشوارع بقوافل السيارات بعد قرار السماح لهن بالقيادة، ولم يعد السعوديون قادرين على تحكيم اختيارهم بين وابل العروض الفنية والغنائية التي تشهدها مدن المملكة، سواء العربية منها او الغربية، ويمنّي السعوديون النفس اليوم بإمكانية الاحتفال بعيدي الميلا ورأس السنة، فنكاد نرى شجرة الميلاد تستوطن البيوت والمدارس والجامعات.
ولم يقف الأمر عند تنظيم الحفلات الغنائية بل إن نظرة سريعة على القنوات الفضائية السعودية، ولا سيما شبكة الـ MBC، كافية لملاحظة برمجة متقنة للأفلام الأمريكية التي تحاكي سيناريوهات متشابهة تتحدث عن أخطار فضائية تداهم الأرض وتهدد العرق البشري، وفي المقابل يقوم مجموعة من الأمريكيين الشباب من الذكور والإناث بمقاومة هذا الغزو والانتصار على قوى الشر، هذا فضلاً عن عرض أفلام لها الطابع المباشر مثل فيلم "300" الأسطوري الذي يظهر الفرس وكأنهم شعب مفترس يريد اجتياح الأرض ولكن ثلاثماية فارس من فرسان اسبارطة استطاعوا هزم الامبراطورية بالعزم والقوة والإرادة والذكاء، مع الإشارة إلا أن هذا الفيلم مصنّف من ضمن الأفلام الفاشلة في إطار الانتاج السينمائي الهوليوودي.
وعلى اي حال فإن التشابه شبه التام في أداء الإعلام الأمريكي سابقاً وأداء الإعلام السعودي راهناً يطرح علامة استفهام كبيرة، فقد استخدمت السلطات الأمريكية الإعلام لقمع ثورة السود في الولايات المتحدة، واليوم تستخدم وسائل الإعلام السعودية المنهج نفسه بسياسة مماثلة، ومن غير المستبعد أن تكون السلطات السعودية تعتمد المنهج العسكري – الاستخباري نفسه أيضاً.. فما هي الثورة التي يريد ولي العهد محمد بن سلمان قمعها في المملكة؟! أم أنه يستبق بهذا الأداء الإعلامي حدوث أي ثورة قد تنشأ؟! ولئن كان السود في أمريكا يشكّلون عنصراً مشخّصاً، فمن هم الذين يخاف ابن سلمان أن يثوروا في السعودية؟! ومن هم البيض الأقلّية الأغنياء في السعودية ومن هم السود الأكثرية الفقراء؟!