القدس العربي-
تسمح مقابلات الزعماء العرب مع وسائل الإعلام الغربية بالتعرّف على جوانب في سياساتهم وشخصياتهم لا يمكن أن نعرفها من خلال خطاباتهم الرسمية المعقمة التي يكتبها موظّفون بيروقراطيون، أو المقابلات الصحافية المبرمجة التي تعرف أن جلّ مهمتها التسبيح بحمد الحاكم وتعداد إنجازاته وتسويق أفعاله وتبرير هزائمه وانكساراته وتحويلها إلى انتصارات.
مقابلة ديفيد أغناطيوس، من صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، مع وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان هي إحدى هذه المقابلات التي تحاول وضع خطّ وسط بين الترويج المطلوب الذي يفترضه الشخص المحاور، والمهنية الصحافية التي تريد أن تقدّم بعض المعلومات الجديدة عبر أسئلة جدّية لا يجرؤ الصحافيون المحلّيون، إطلاقاً، على طرحها.
تناقش مقابلة «واشنطن بوست» مع بن سلمان «الإصلاحات» السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية التي يقوم بها، والمخاطر التي تتعرض بلاده لها، وتقدّم دفاعه عن تلك السياسات، مع اهتمام مفهوم بمسائل كالسماح للنساء بسياقة السيارات، ودخول الملاعب الرياضية، وبتعيين امرأة نائبة لوزير.
وهذه خطوات متأخرة في بلد متخلّف في هذه المجالات بعقود عن نظرائه في بلدان الخليج (وهي من نسيج اجتماعي واقتصادي مقارب لمملكة آل سعود)، ومدد أطول بكثير مقارنة بالبلدان العربية والإسلامية، التي تجاوزت هذه القضايا منذ وقت بعيد، وكان فيها نساء في سدّة السلطة العليا (باكستان وبنغلادش مثلا) وليس وراء مقود السيارة فحسب.
غير أن المقابلة تكشف أيضاً، ومن دون حاجة لتأويل كثير، أن صغر سنّ وليّ العهد (32 عاما) وصورته بوجهه المبتسم، وحماسه للتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولمواجهة أعداء المملكة، هي عناصر لا تستطيع أن تخفي وجهاً آخر يصعب الدفاع عنه.
وهو يظهر في قضايا عديدة، منها مثلاً رأيه في وقف انتهاكات حقوق الإنسان في المملكة، حيث يواجه هذه المسألة بالقول: «ما يعمل لا ضرورة لتغييره!»، والمقصود طبعا أنه ما دامت تلك الانتهاكات تؤدي المطلوب منها، كإسكات النقد، وقمع أي شكل من أشكال المعارضة والاختلاف، وتجاوز القوانين الدولية والمحلية، فما الداعي لتغييرها؟
المشكلة في أن هذا المنطق ممكن التطبيق على كل ما يجري في السعودية قبل استلام بن سلمان أركان السلطة، فلماذا يصحّ البدء بتشجيع بعض الحريات النسائية، وهي من حقوقهن المتعارف عليها عالميا، فيما يجري التنكّر لحقوق الإنسان الأخرى، ومنها مبادئ حرية التعبير والتظاهر والسفر؟
ولماذا لا يتم احترام القوانين؟
ولماذا لا يجري تحديثا سياسيا، ولو كان متواضعا، تحترم فيه مبادئ الديمقراطية الحديثة، كي لا يبدو الأمر وكأنه مجرد تثبيت لسلطة فرد واحد، وتركيز السلطات كلها في يده، وقمع كل من يعارضه تحت شعارات التغيير؟
يشير الأمير في حواره مع الصحيفة إلى أن الأوضاع في المملكة وصلت إلى حال تقتضي فيه «العلاج بالصدمة»، مصوّرا ما يفعله بالعلاج الكيميائي للسرطان، وكلّ هذه التشبيهات والاستعارات هي طرق لتبرير العنف الكبير الذي يجري ضد معارضي ولي العهد في المجتمع السعودي، بما في ذلك غير المتحمسين لخططه ضمن العائلة الحاكمة نفسها، التي يقول في الحوار إنه «أخضعها» أو «استخدم العنف لتأديبها» chastened، وهو أمر، أقلّ ما يمكن أن يوصف به، أنه يثير الجدل.
فالإخضاع، والعلاج بالصدمة، والتأديب، استهدف النخب السياسية والاقتصادية والدينية للمملكة، كما استهدف كل من اعترض على سياسات الأمير، وطرق تطبيقها، من عموم الشعب؛ وخلال عملية الإخضاع و«التأديب» هذه، لم تقدّم ضمانات قانونية أو سياسية للمعترضين، وهذه وصفة ليس لها تعريف آخر غير الاستبداد، وهو أمر لا يحمل، بالنتيجة، التغيير الذي يطمح إليه الشعب السعودي، وشعوب المنطقة.