محمد المنشاوي- العربي الجديد-
وسط الضجيج المصاحب للزيارة الطويلة لولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، للولايات المتحدة، اختار الطرفان، الأميركي والسعودي، عدم التطرق إلى قضية مهمة، لكي لا تعكر جو الزيارة والاحتفالات الصاخبة المرافقة لها.
وهي قانون جاستا، (Justice Against Sponsors of Terrorism Act) أي «العدالة ضد رعاة الإرهاب»، وقد أقره الكونغرس تشريعا، وأصبح قانونا في نهايات شهر سبتمبر/أيلول 2016.
يعطل هذا القانون قانونا سابقا صدر عام 1976، كان يوفر الحصانة السيادية للدول وحكامها من الملاحقة القضائية داخل الولايات المتحدة.
وقد مر «جاستا» بأغلبية وإجماع غير مسبوقين في مجلسي الكونغرس، الشيوخ والنواب. وصوت أغلب الأعضاء، في حالة نادرة، لصالح القرار قبل أن يتدخل الرئيس السابق، باراك أوباما، بالفيتو الرئاسي محاولا إيقافه.
ورغم تدخل الرئيس وفريق البيت الأبيض ووزارة الدفاع وأعداد كبيرة من الدبلوماسيين والخبراء السابقين في محاولات لثني الكونغرس عن قراره، إلا أن «جاستا» أصبح قانونا بأغلبية 97 صوتا في مقابل صوت واحد في مجلس الشيوخ، وبأغلبية 348 مقابل 77 صوتا بمجلس النواب، حتى بعد كل تلك الاعتراضات. وخلال الحملة الانتخابية، عبر الرئيس دونالد ترامب عن صريح دعمه الكامل لقانون جاستا.
ورغم ذلك، كانت السعودية وجهة الرحلة الخارجية الأولى للرئيس ترامب، بعد وصوله إلى الحكم، ومنحت السعودية ترامب كل ما يريد. اتفق الطرفان، السعودي والأميركي، على الاحتفاء بعقد صفقات تقترب قيمتها من نصف تريليون دولار.
اتفقا على إلقاء اللوم على سجل إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما فيما آل إليه حال العلاقات بين الرياض وواشنطن من سوء. واتفق الطرفان على إدانة إيران ولومها على كل المشكلات التي يعانى منها الشرق الأوسط، بدءا من اليمن وسورية والعراق وصولا للصراع العربي الإسرائيلي.
وبالإضافة إلى الجانب المادي المالي للزيارة، لم يكن ممكنا لدولة أخرى أن تستقبل ترامب كما استقبلته السعودية، ولم يكن لدولة أخرى أن تنفق بهذا البذخ كما أنفقت، ولم يكن لدولة أخرى أن تضمن عدم خروج مظاهرات مناوئة للزيارة.
لم يكن ممكنا استقبال «ترامب» عند أقرب حلفاء واشنطن في كندا أو بريطانيا من دون خروج عشرات وربما مئات الآلاف تظاهراً ضد سياساته العنصرية والفاشية، كما لم يمنع موقفه المعادي للإسلام والمسلمين من استقبال المملكة له.
وأسس الطرفان خلال الزيارة لعلاقات فريدة تجمع بيت آل سعود بعائلة الرئيس «ترامب» وعندما جاء الأمير الصغير «محمد بن سلمان» لواشنطن الأسبوع الماضي، تم ضخ الحياة من جديد فيما اُتفق عليه في أثناء زيارة ترامب الرياض.
إلا أنه وخلال زيارة بن سلمان الحالية للولايات المتحدة، لم يتحدث ترامب، ولا أي من أركان إدارته عن قانون جاستا الذي فُصل لكي يتم من خلاله توجيه الاتهام للعربية السعودية وأعضاء أسرتها الحاكمة بالضلوع، بصورةٍ مباشرة وغير مباشرة، في تمويل هجمات 11 سبتمبر الإرهابية والتي وقعت عام 2001، وراح ضحيتها نحو ثلاثة آلاف أميركي.
وبعد صدور القرار، رُفعت عشرات القضايا بموجب هذا التشريع الجديد، واستقبلت محاكم العاصمة واشنطن ونيويورك دعوات قضائية من مئات من أهالي ضحايا 11 سبتمبر وعائلاتهم ضد حكومة المملكة السعودية، يتهمونها بتقديم دعم مادي ومالي لتنظيم القاعدة، سنوات قبل الهجوم الذى يُعد أسوأ هجوم إرهابي يقع داخل الأراضي الأميركية.
خلال الزيارة، يتم التركيز فقط على «صورة جميلة» للتغيرات الشكلية التي يقدمها محمد بن سلمان للرأي العام الأميركي، وتتعلق بحريات أكبر للنساء السعوديات في المجالات الاجتماعية والرياضية والاقتصادية والتعليمية. يتحدثون عن حملاتٍ ضد الفساد، وعن تنويع الاقتصاد السعودي، للابتعاد عن الاعتماد الكامل على موارد النفط، ولا يتحدثون عن قانون جاستا وتداعياته.
كانت الحكومة السعودية قد عبرت عن اعتراضها وانزعاجها الكبير من صدور قانون جاستا، ورأته مبعث قلق بالغ للمجتمع الدولي. وقال بيان للحكومة السعودية آنذاك إن من شأن صدور القرار "إضعاف الحصانة السيادية للدول والتأثير سلبا على جميع الدول بما في ذلك الولايات المتحدة".
بعد أسابيع قليلة من انتهاء زيارة ترامب الرياض، حدث انقلاب داخل القصر الملكي السعودي، أوصل محمد بن سلمان إلى منصب ولي العهد، وتمت إزاحة محمد بن نايف. ثم كانت ما أطلق عليها الحملة ضد الفساد.
ورغم عدم صدور ردود فعل قوية من أي من العواصم الكبرى، ردًا على إلقاء محمد بن سلمان القبض على كبار رجال المال والأعمال السعوديين، وتنحية وتحديد إقامات كل خصومه السياسيين، كان ترامب الاستثناء الوحيد من خلال تأييده المباشر لخطوات بن سلمان.
وقال ترامب في تغريدة حينذاك إن لديه ثقة كبيرة في الملك سلمان وفي ولى عهده الأمير محمد، وإن "بعض أولئك الذين يعاملون بصرامة في السعودية استنزفوا بلدهم سنوات".
ثم جاء إعلان ولي العهد السعودي نيته طرح حصة من شركة أرامكو السعودية النفطية الحكومية العملاقة نسبتها 5%، وأن ذلك سيحدث من خلال طرح عام أولي للأسهم في 2018 في البورصة السعودية، بالإضافة إلى بورصة أجنبية واحدة، وكان التركيز منصبا على بورصتي لندن ونيويوركِ. وأراد الرئيس ترامب استغلال علاقاته القوية ببيت الحكم السعودي، وضغط مغردا بأنه يأمل أن يتم طرح أسهم شركة أرامكو في بورصة نيويورك.
وكان محمد بن سلمان قدر قيمة أرامكو بما يقرب من تريليوني دولار، إلا أن الخوف من استقلالية القضاء في أميركا، والفصل بين السلطة التنفيذية والجهات القضائية يدفع السعوديين إلى البحث عن بورصة أكثر أمانا لطرح أسهم شركتهم الأكبر، خوفا من تداعيات القضايا المرفوعة ضدها عن طريق قانون جاستا، واحتمال تجميد أصول سعودية حال الحكم لصالح عائلات ضحايا 11 سبتمبر.
لم تجرؤ الرياض على أن تطالب ترامب بأي شيء تجاه قانون جاستا. وربما أنها تدرك أنه أصبح ساريا، ومن الصعوبة أو المستحيل تغييره. ويسيطر الترقب على "عقلاء واشنطن" فيما يتعلق بمستقبل المملكة السعودية، خصوصا مع التغيرات والقلاقل المتسارعة على حدودها الجنوبية أو الشمالية أو حتى الشرقية.
نعم، باركت واشنطن وصول بن سلمان إلى سدة الحكم، على الرغم مما لديها من عوامل قلق وتحفظات ترتبط بقراراته المتسرعة وقلة خبرته من ناحية. ويعتقد بعض الأميركيين أن الأمير الشاب يمثل فرصة حقيقية للتحديث، نظرا لصغر سنه، وعدم ارتباطه بالتقاليد السعودية المتشدّدة..
إلا أن آخرين يدركون أيضا أنه فرصة قد يتحول إلى أزمة أو قنبلة موقوتة، لا يمكن معها السيطرة على زمام أمور الحليف السعودي المهم. وها هي الولايات المتحدة تتعرف إلى الأمير الصغير، ويتعرف هو أيضا إلى أميركا.
وبين هذا وذاك يبقى قانون جاستا والقضايا المرفوعة أمام محاكم أميركية، والتي لا يتطرق إليها الطرفان، خنجرا مستقرا في مستقبل علاقات الرياض بواشنطن.