عبد الوهاب الأفندي- العربي الجديد-
في نهايات التسعينيات، بدأت تصل إلي ملاحظات وتساؤلات من أصدقاء في الأوساط الأكاديمية الأمريكية بشأن ما وصفوها تحركات مريبة لرموز إسلامية عراقية، أخذت تتقرب من تيار المحافظين الجدد الصاعد، فقد أخذت هذه الشخصيات تظهر في منابر مشتركة مع رموز المحافظين الجدد، رغم ما يعلمون من عدائها الإسلام والمسلمين والعرب، وتبتلها في محراب التطرف الصهيوني.
وتساءل هؤلاء عما يدفع شخصيات، عرف أنها إسلامية معتدلة وذات توجه ديمقراطي، إلى الولوج إلى مستنقع التطرف المعادي للمسلمين؟
وكان هذا السؤال يوجه إلي في بعض الأحيان، لمعرفة السائلين بعلاقة صداقة لي مع بعضهم.
بعد شيء من التقصي، اتضح أن هذه الجهات أرادت الاستفادة من ترويج المحافظين الجدد وأنصارهم في إسرائيل فكرة غزو العراق. وقد لعبت هذه المجموعة دورا كبيرا في تزيين غزو العراق، متعهدة بأن التيارات التي تمثلها ستكون سندا للغزو.
وبالفعل، تحرك عدد من هؤلاء لدعم الغزو في بداياته، بالقلب واليد واللسان، وأصبح بعضهم من أول ضحاياه، حين قتله متطرفون. وبالطبع، لم تكن هذه الكارثة الوحيدة على هذه المجموعة وعلى العراق.
وأذكر أنني ناقشت، في محاضرة أعدت عشية الغزو، وألقيت في شهره الأول بمدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، ما وصفته حينها بالمستنقع المتوقع لأمريكا في العراق والشرق الأوسط عموما. ورجعت حينها إلى مقولة المؤرخ الإنكليزي، إدوارد غيبون، إن الديانة المسيحية كانت السبب في خراب الإمبراطورية الرومانية التي يقارن بعضهم تمدد أمريكا في الشرق الأوسط بحالها.
وكانت الملاحظة أنه لو صحت مقولة جيبون، فإن انتشار المسيحية في الإمبراطورية الرومانية نتجت عن التوسع الروماني في مناطق لم يكن لروما بها شأن. وبالقدر نفسه، فإن الإمبراطورية الأمريكية تتوسع في عصرنا في مناطق لا حاجة لها بها، وقد يكون مصيرها مماثلا.
تذكرت هذه الملاحظات، وأنا أتابع محاولة أخرى لبناء تحالف مماثل بين أطراف عربية وأشد الأوساط اليمينية الأمريكية والصهيونية تطرفا في كراهية العرب والمسلمين، من أجل أهداف متقاربة، وإن كانت أشد خطرا على المنطقة، وأقل عائدا لمن تولى أمر كبرها (؟؟؟؟لعلها أمرها)، حتى لو نجحت، وهو احتمال بعيد.
ذلك أن التحالف لا يحاول، حتى مجرد إيهامنا، هذه المرة، بأنه يسعى إلى جلب مصلحة، مثل نشر الديمقراطية أو أي خير مزعوم آخر للعرب، فهو تحالف يجاهر بشراهته لنهب خيرات العرب، ولعزمه تصفية القضية الفلسطينية، ولدعمه أنظمة همها قمع رعاياها وتكميم أفواههم، وتسخير إمكاناتهم لشن حروب مدمرة ضد جيرانهم.
وهي حروب لا مصلحة لهذه الدول فيها، بل الضرر كل الضرر، والمصلحة فيها، إن وجدت، لأعداء الأمة. وحتى هذه مصلحة مشكوك فيها.
ولعل المفارقة أن الأنظمة المنخرطة في هذه المغامرة تخشى التغيير، وتريد المحافظة على وضعها الحالي بأي طريقة كانت. لكنها اختارت منهجا "ثوريا" لتحقيق هذه الغاية صعبة المنال.
فهي تنافس العقيد معمر القذافي في تبذير الأموال والمغامرات المسلحة في كل صقع، لنشر أيديولوجية متناقضة وإشكالية (تتمثل في علمنة ثيوقراطية وليبرالية استبدادية ومحافظة هجومية)، وهي تنافس صدام حسين في العدوان على الجيران والغطرسة العدوانية، وتنافس الخميني في السعي إلى نشر "ثورتها" العلمانية بالقوة والدعاية الصارخة.
وهي بهذا تقوض الأسس التي قامت عليها هذه الدول (النظرة المحافظة، والبعد عن الديماغوجية والهوس، والحفاظ على استقرار اقتصادي، يقوم على تقليل الأعداء وتخفيف جرعات التسييس، وعدم استعداء الغالبية المتدينة في المجتمع).
وكأن هذا لا يكفي، فإن هذه الأنظمة تسعى الآن إلى تبني أجندة خارجية لا تقل تهورا، متمثلة في أجندة إسرائيل والشعبوية الجديدة في أمريكا ضد إيران، في استعجال مدهش على مواجهة عسكرية غير متكافئة. فهذه الدول عجزت، كما هو معروف، عن مواجهة إيران، حتى بصورة غير مباشرة (في سورية والعراق ثم لبنان واليمن).
فكيف، إذن، تقدر على مواجهة مباشرة معها، خصوصا أن العجز كان، في حد ذاته، نتيجة السياسات غير الموفقة التي تتبعها؟
ذلك أن هذه الدول كرست نفسها لمعاداة كل القوى الفاعلة في بلدانها وفي العالم العربي. ولهذا لم تستعن بها أو تدعمها في سورية وليبيا والعراق واليمن. بل بالعكس، نجدها بذلت جل مواردها المالية والسياسية والإعلامية والاستخباراتية لضرب التيارات النشطة وإضعافها، بينما إيران تطور التيارات الموالية لها وتدعمها، بما فيها أكثر الحركات تطرفا، وتستعين بها.
بذلت إيران كذلك جهودا، عبر سنوات، لتقوية صناعاتها الحربية، ولبناء جيوش ومليشيات داخل إيران وخارجها، كل منها أقوى بأضعاف المرات من جيوش الدول المنافسة.
نحن إذن أمام حالة غاية في الغرابة: دول ضعيفة عسكريا وسياسيا تفتعل مواجهة مع دولة أقوى منها بكثير، وتشن، في الوقت نفسه، حروبا على شعوبها، وعلى النخب المفكرة والتيارات الحية فيها.
وعليه، فإن اعتماد هذه الدول في المواجهة لن يكون على مواردها الذاتية وشعوبها، بل على دعم أجنبي متوهم، سيقوم بكل واجبات الحرب، ويتحمل كل تبعاتها، بينما تبقى هذه الدول أنها بمنأى وسلامة من الوغى!
وهذا لعمري من خطل الرأي، خصوصا بعد محاولة إثارة فتنة وحرب في لبنان، على أساس وهم مماثل بأن إسرائيل "ستقوم بالواجب" في لبنان، بمجرد إتاحة هذه الفرصة لها. لكن إسرائيل لم ترفض فقط التعاون، بل أعلنت صراحة أنها لن تحارب حروب الآخرين. وكان في هذا "الخذلان" الإسرائيلي عبرة لمن يعتبر.
وهذا يطرح السؤال المهم: لنفترض أن إسرائيل قررت هذه المرة أن تحارب حربها، وتشن بدعم من ترامب حملة عسكرية ضد إيران، فماذا سيكون وضع وموقف الدول المحرضة؟
من الواضح أن أي هجوم على إيران سيؤدي إلى هجمات انتقامية من لبنان وسورية على إسرائيل، ومن إيران على دول الخليج، بعواقب مدمرة على اقتصاد هذه الدول وتماسكها الاجتماعي. والأسوأ أن الحرب سوف تستمر لسنوات، وعليه فإن استعجالها هو استعجال لخراب الخليج.
هذا لا يعني بالطبع أن إيران لا تحتاج لمن يتصدى لانتهاكاتها وآثامها، ولكن التصدي كان ينبغي أن يتم أولا في سورية والعراق ولبنان، وهو يحتاج إلى تقوية البنية السياسية للعام العربي عموما، ولدول الخليج خصوصا. وهذا يتطلب تغييرا جذريا في سياسات الدول الخليجية التي توشك أن تصبح انتحارية.
فلا يمكن لكيان سياسي في عصرنا هذا أن يعتمد على المال والقمع فقط، بحيث يصبح أشبه بشركة بلاك ووتر. بل هو أسوأ، لأنه يجرد نفسه من أي شرعية شعبية وأخلاقية، بالإصرار على إسكات كل صوت مستقل، وقمع كل كيان سياسي ومدني، ثم التخلي عن كل شرعية دينية أو عروبية أو وطنية عبر الانحياز الصريح لأعداء الأمة، والتنكر لقضاياها المصيرية.
وإذا أضيف إلى هذا شن حروب دونكيشوتية في كل ساحة، فإن هذا لا يبشر بخير للمنطقة، ولا يعكس أي حكمة، بل عقلية المقامرين (بالقاف).