عبد الحميد حكيم- معهد واشنطن-
لماذا أُغلقت أبواب السلام مع إسرائيل؟ وأحيطت بأسوار من التخوين والتكفير لمن يجرؤ على الاقتراب منها؟ ولمصلحة مَن كُرست ثقافة كراهية اليهود وإنكار حقهم التاريخي في المنطقة؟ رغم أن جميع الكتب السماوية التوراة والإنجيل والقرآن الكريم تؤكد أن اليهود جزءٌ أصيل وشريك في تاريخ المنطقة، وليسوا دخلاء كما تم تصور هذا المفهوم وتكريسه في ثقافة المجتمعات العربية.
إن البداية الحقيقية للإجابة على هذه التساؤلات تستدعي العودة إلى أحداث ثورة يوليو في عام 1952 وذلك عندما استولى الجيش المصري على السلطة في مصر بالتعاون مع الإسلام السياسي، المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين، واستبدلا الديمقراطية الوليدة بحكم عسكري ديكتاتوري.
لقد أدرك ناصر حتمية وجود عدو لضمان استمرارية شعبيته، وتبرير ديكتاتوريته، وتشريع أطماعه التوسعية في المنطقة كي يصبح زعيم الأمة بلا منازع. فوجد ضالته في استثمار الصراع العربي الإسرائيلي وعمل على تكريس العداء لدولة إسرائيل، وغرس ثقافة الكراهية لليهود وإنكار حقهم التاريخي في المنطقة مستخدماً جميع الوسائل المتاحة له حتى أصبح هذا العداء جزءٌ أصيل من ثقافة المواطن العربي.
نهجت معظم الأنظمة العربية نهج عبد الناصر في استثمار النزاع العربي الإسرائيلي سياسياً واستخدامه كسيف مسلط لتخوين الأصوات الوطنية المعارضة لاستبدادهم السياسي، ومواجهة خصومهم السياسيين في المنطقة باسم نصرة القضية الفلسطينية. ولهذا السبب دفع الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات حياته ثمناً لتحقيق السلام مع إسرائيل عندما أبرم اتفاقية كامب ديفيد للسلام والتي تبعها توقيع معاهدة السلام في عام 1979. حيث كانت هذه الاتفاقية تتعارض مع مصالح الأنظمة العربية المتاجرة بالنزاع العربي الإسرائيلي من جهة ومع مصالح الإسلام السياسي من جهة أخرى والذي تزايد توغله في مجتمعات المنطقة خاصة بعد سقوط فكر القومية العربية بعد هزيمة عرابها عبد الناصر في حرب 1967.
نجحت الأنظمة العربية المتاجرة بالنزاع العربي بالتعاون من الإسلام السياسي في التخلص من السادات الذي مثل مقتله رسالة تحذيرية تنذر بعدم الاقتراب من أبواب السلام فازدادت ثقافة كراهية اليهود وإنكار حقهم التاريخي في المنطقة، وأصبحت هذه الثقافة مغلفة بغلاف ديني تكفر وتخون كل من يجرؤ حتى النقاش في صحتها وهذا بسبب توغل فكر الإسلام السياسي في المجتمعات العربية نتيجة استبداد الأنظمة السياسية التي حجبت المشاركة السياسية وبالتالي أنتجت أمية سياسية، فكان البديل هو الإسلام السياسي.
سعت السعودية إلى دعم عملية السلام من خلال مبادرة السلام العربية والتي تم الإجماع عليها في مؤتمر القمة العربية ببيروت عام 2002 أجرأ خطوة منذ نشأة الصراع العربي الإسرائيلي، ولكنها ظلت تراوح مكانها لنفس الأسباب التي أدت إلى فشل اتفاقية أوسلو وقتل السادات.
إن رياح التغيير في قواعد اللعبة بدأت تهب في المنطقة عام 2003 بعد سقوط النظام العراقي محملة برسائل تنذر بأن لاعبين جدد سيدخلون المنطقة نتيجة الفراغ السياسي العربي الذي بدا واضحاً، فكانت حرب عام 2006 بين حزب الله وإسرائيل، وإطلاق ما يدعى بأسطول الحرية التركي إلى غزة عام 2010 البداية الحقيقية لتغيير قواعد اللعبة السياسية بدخول تركيا وإيران في الصراع.
وقد شهد عام 2011 م أحداث وتغييرات جديدة ونوعية للمنطقة نتيجة سقوط بعض الأنظمة العربية بما عرف بالربيع العربي، وكان الوريث لهذه الأنظمة الإسلام السياسي كنتيجة طبيعية لغياب المشاركة السياسية وضعف الوعي السياسي لهذه المجتمعات. إن تصدر الإسلام السياسي المشهد بشقيه السني والشيعي فرض الهيمنة لكل من تركيا وإيران على المنطقة بشكل شبه كامل. وتجدر الإشارة هنا بأن الهيمنة الإيرانية والتركية خلقت الفوضى الدموية التي جعلت من مجتمعات المنطقة مسارح للحروب الأهلية تحت شعارات مذهبية أو صراع على السلطة ولإخفاء بصماتهما الواضحة في تدمير المنطقة قاما بواسطة الإسلام السياسي تحميل إسرائيل وزر هذه الفوضى مستغلين كره هذه المجتمعات لليهود فيسهل بذلك تمرير أدلة واهية مغلفة باسم الدين، فاسقطوا آيات قرآنية نزلت في ظروف زمنية خاصة على اليهود منذ ما يقارب 1400 عام على واقع اليهود اليوم لتسويق الكراهية لهم وإقناع المجتمعات العربية ببراءتهما وبراءة ذراعهما المتمثل في الإسلام السياسي من مسؤولية تدمير المنطقة وإلصاقها بإسرائيل.
رغم الواقع التعيس الذي تعيشه المنطقة إلا أن عدالة الأقدار تفتح نافذة أمل للخروج من هذا النفق المظلم تتجسد في تصدر المشهد السياسي السعودي أمير شاب ينتهج سياسات جديدة مغايرة تماما للنمط التقليدي، إنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماهي طبيعة الفرصة التاريخية لتحقيق السلام مع إسرائيل التي تعتبر نافذة الآمل لخروج المنطقة من النفق المظلم؟ ولماذا الأمير محمد بن سلمان؟ ولماذا الآن؟
إن نافذة الأمل والفرصة التاريخية تتمثل في كون السعودية قبلة المسلمين الدينية فهي تحظى بقدسية في مجتمعات المنطقة خاصةً والعالم الإسلامي عامةً فلذلك لها القدرة على تحقيق شرعنة السلام مع إسرائيل بشقيه الشعبي والسياسي.
إن المتابع للمشهد السياسي السعودي يلمس بأن هنالك منهج جديد للسياسات السعودية تختلف عن النمط التقليدي الذي كانت تسلكه القيادات السعودية السابقة سواء على المستوى الداخلي والخارجي، وعراب هذا المنهج الجديد هو الأمير محمد بن سلمان الذي يعتبر الحلقة المفقودة بين قدرة السعودية للقيام بهذا الدور المتمثل بتحقيق السلام وبين الإرادة السياسية في اتخاذ قرار السلام، فمن كانت له القدرة والشجاعة على كسر الثوابت التقليدية أو تجاوز الخطوط الحمراء في السياسة السعودية إن جاز التعبير كإلغاء الشرطة الدينية والسماح بإقامة الحفلات الغنائية وأنصاف المرأة السعودية ومن ضمنها السماح لها بقيادة السيارات. كما اتخذ قرارات أحدثت تغيرات جذرية في طبيعية وثقافة إدارة المجتمع من إدارة دينية متشددة إلى إدارة مدنية حضارية في إطار إسلامي يتناسب مع ثقافة المجتمع.
وختاماً، من يمتلك هذه الشجاعة في اتخاذ هذه القرارات الجريئة ومواجهة تحديات ثقافة الممانعة من قبل الحرس القديم في إدارة المجتمع، فبالتأكيد سيكون قادراً على اتخاذ قرار السلام مع إسرائيل مستمداً شرعيته من الإسلام الوسطي المعتدل ومن أقدس البقع الدينية في المنطقة والعالم الإسلامي. إن الإرادة السياسية للأمير الشاب بتحقيق السلام ستنقذ ما تبقى من مجتمعات المنطقة من السقوط إلى الهاوية وإنهاء صراع دام أكثر من سبعون عاماً لم يجلب سوى مزيداً من الخسائر والضعف والإرهاب.
إن تداعيات الربيع العربي التي أفرزت الفوضى الدموية جعلت شعوب المنطقة تدرك زيف الشعارات التي اعتنقتها وآمنت بها عبر عقود من الزمن، وخلقت فرصة تاريخية لأحياء ثقافة السلام مع إسرائيل. حيث أصبح من الممكن تقبل فكرة السلام الذي يبشر بمستقبل شرق أوسط جديد يحمل تحقيق أحلام هذه الشعوب بالتنمية والازدهار والأمن مغايرة للواقع البائس الذي يعيشونه.
وأخيراً على المجتمع الدولي وخاصة الدول الكبرى التي لها مصالح إستراتيجية في المنطقة وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية دعم تحقيق السلام بكل الوسائل المتاحة بين الدول المعتدلة وفي مقدمتهم السعودية وبين إسرائيل، ودعم التوجهات السياسية الجديدة التي يتبناها ولى العهد، فهو رجل السلام ورجل المرحلة في المنطقة ويمتلك مفاتيح أبواب السلام الشعبي والسياسي مع إسرائيل التي ظلت مغلقة منذ أكثر من 70 عاماً.