محمد أبورمان- العربي الجديد-
ما يحدث في السعودية هو انقلاب، لا بل أبعد من ذلك بكثير؛ هو قلبٌ للطاولة رأساً على عقب. لا أقصد هنا، بطبيعة الحال، السياسات الداخلية والخارجية، إنّما ما هو أعمق بكثير جوهر العلاقة التي مثّلت شرعية الحكم وبنية التاريخ السياسي السعودية بين المؤسسة الدينية السلفية الوهابية ومؤسسة الحكم، تلك العلاقة التي استقرّت على تقاسم الأدوار بين المؤسستين، وتحديد مساحات العمل والتفاعل.
هي العلاقة التي أنتجت هيمنةً مطلقةً للثقافة السلفية، الوهابية، على مجمل الحياة العامة في السعودية، فحكمت التعليم والإعلام والثقافة والتربية، وشكّلت مصادر «القوّة الناعمة» (ليس بالمعنى الإيجابي بالضرورة، إنّما المحايد هنا) السعودية في العالم.
فأصبحت أكبر «مصدّر» للدعوة السلفية، ما أدّى لاحقاً إلى اتهام الغرب والأميركيين السعودية بأنّها المسؤولة عن نشر «العقيدة الدينية» للتيارات المتطرّفة، مثل داعش والقاعدة، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر في عام 2001، والتي كانت أغلبية منفّذيها سعوديين، بينما كان قائد القاعدة التاريخي سعوديا، أيضاً، «أسامة بن لادن».
وفي حركة خاطفة، بما يشبه الضربة الاستباقية القوية، قام وليّ العهد السعودي، «محمد بن سلمان»، بقلب الأوراق كافّة، وإحداث تغيير جوهري ومعاكس تماماً للمرحلة السابقة، فعمل على تغيير القوانين والأنظمة، وسُمح للمرأة بقيادة السيارة، والعمل، وتمّ القضاء على السلطة التاريخية المعروفة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتمّ تقليم سلطة المؤسسات الدينية بصورة ملموسةٍ في وقتٍ قصير جداً، وشمل الأمر التيارات السلفية كافّة، من المعتدلة إلى الموالية للدولة وصولاً إلى المعارضة.
في المقابل، تمّ تنشيط هيئة الترفيه التي أخذت تقيم حفلاتٍ لم يكن أبداً من الممكن التفكير بإمكانية حدوثها في السعودية، بدايةً من «تامر حسني»، وصولاً إلى عروض المصارعة الأمريكية الحرّة (WWE) التي أظهرت ولع شريحة اجتماعية واسعة من السعوديات والسعوديين بالثقافة الأمريكية والغربية عموماً.
ما كان قبل أعوامٍ قليلة بمثابة جريمة ثقافية وقانونية ودينية واجتماعية، وعمل شائن، أصبح اليوم مقبولاً ومعترفاً به، والعكس صحيح.
هذه القرارات التي مسّت الثقافة الدينية والرمزية واليومية للمواطنين، لها مؤيدون، من دون شك، من السعوديين الذين ملّوا سيطرة المؤسسة الدينية، ومعارضون من التيارات الإسلامية كافّة التي ستوظف هذه التحوّلات لتعزيز الدعاية المشكّكة بشرعية الحكم وبانقلابها على التحالف التاريخي بين الدعوة والدولة، وتجنيد أعداد أخرى من الشباب المتدين السلفي الذي، بالضرورة، يشعر بسخط شديد مما يحدث.
رغم ما يبدو على السطح أنّ الأمور تسير بصورة سلسلة وناعمة، فإنّ الواقع غير ذلك تماماً، ولا يمكن أن يكون بهذه الصورة السطحية، فما يحدث معركةٌ حقيقيةٌ على هوية الدولة والمجتمع. وهنالك أنصار للجديد وآخرون للقديم، وشبابٌ متعطشون للإفلات من القيود السابقة، وآخرون يرون فيما يحدث نقضاً كاملاً لكل المواثيق والعقود التاريخية المعروفة في السعودية.
بالنتيجة، ما حدث يقوّي التيار الليبرالي، ويعزّز الانفتاح الثقافي، ويحرّر السعودية من قبضة الأفكار الدينية المتشددة التي لا تمثّل الفكر الإسلامي المعتدل بالضرورة (هنالك نماذج للإسلام السياسي مغايرة للنموذج السعودي؛ تركيا، تونس، المغرب..)، وهو أمر وجد تشجيعاً هائلاً من الغرب.
في المقابل، خطورة الطريقة التي تمّ بها التغيير، بصورة مفاجئة وسريعة، ومن فوق إلى تحت، أنّه يضعف تماماً المؤسسة الدينية الرسمية التي عملت على الدفاع الدائم عن النظام، وهي اليوم في ركن الزاوية، عاجزةٌ عن القيام بمهمتها السياسية التاريخية.
ويعزّز أسباب وشروط التجنيد للتيارات الراديكالية المنتشرة والفاعلة أصلاً في السعودية، ويحجّم حتى التيار المعتدل الذي وجد قادته أنفسهم في السجن والاعتقال أو قيد الصمت.
هي لحظة انتقالية فيها شكوك ورهانات وأخطار كثيرة، كما تحمل فرصة تاريخية غير مسبوقة، في إعادة إنتاج العلاقة بين الطرفين، الدولة والدعوة.
لكن لا نعرف ما إذا كان هنالك تصوّر عميق استراتيجي لما سيحدث لاحقاً، والصيغة البديلة المطلوبة، ومن يمكن أن يحمل هذا الخطاب والفكر من داخل المؤسسة الدينية، بألوانها المختلفة، طالما أنّها بالجملة خارج اللعبة الحالية.