فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-
منذ اعتماد "رؤية 2030" للإصلاح الاقتصادي بالمملكة العربية السعودية، تطالعنا البيانات الحكومية، والوسائل الإعلامية، بتقارير الإشادة من المؤسسات المالية العالمية، إلى الدرجة التي فاقت حدود المنطق، حتى أصبحت التقارير مجالًا للتندر على مجافاة الأرقام لحقائق الواقع في المجتمع السعودي.
مؤسسات التقييم الدولية، مثل "فيتش" و"موديز"، مثلها في ذلك مثل صندوق النقد و البنك الدوليين، لا تهتم بقياس مؤشرات أخرى "غير رقمية"، مثل مدى امتداد شبكة الحماية الاجتماعية، وكفاءة النظام الضريبي، وعدالة توزيع الثروة، ومدى تفشي الفساد أو البطالة، ومعامل الرضا الشعبي، وغيرها من مكونات الاستقرار، وارتفاع معدلات التشغيل والتصنيع والإنتاج والتصدير، وكلها من عوامل النمو الحقيقي والمستدام، التي تؤسس لتنمية حقيقية، قادرة على العبور بالمجتمع من مرحلة الاعتماد على الريع، الممثل في البترول، كمكون وحيد للدخل القومي.
الإشادة الدولية بالإصلاحات الجارية، تعتمد تمامًا على مؤشرات رقمية، وتفائل بمعدلات النمو في الناتج المحلي، والتي تبلغ طبقًا للبنك الدولي حوالي 2٪ في 2018، ثم 2.1% في 2019، مستندًا إلى زيادة ضخمة وغير مسبوقة في الاستثمارات العامة وميزانية التنمية.
التحليل الاقتصادي السليم يتجه إلى أن الأرقام بطبيعتها مجتزأة من سياق أشمل، فالإصلاحات لا تجرى في كل القطاعات بالوتيرة ذاتها، وأغلب التوقعات ناتجة من أسعار نفط مرتفعة، بفعل التقلبات السياسية، وهو ذات ما تحاول "رؤية 2030" تجاوزه، كما أن ارتفاع معدلات النمو يأتي معظمه من زيادة الإنفاق الحكومي على شركات المقاولات، وليس لزيادة الاستهلاك المحلى الناتج عن زيادة معدلات التشغيل وارتفاع الأجور، أو زيادة الاستثمار المباشر الحقيقي، أو تحقيق فائض بالموازنة المعتلة أساسًا.
التقارير الدولية تُغيب عن عمد بعض الأزمات الرئيسة، التي تهدد بنية المجتمع ذاته، مثل مشكلة الفقر وسوء توزيع المداخيل، والتي تفاقم من الأزمة البنيوية التي تضرب الدولة، وتلقي بظلال كثيفة من الشك على استمرار مسيرة الإصلاح الحالية.
والواقع أننا نواجه في المملكة حقيقتان أساسيتان، مرتبطتان بالنظام الاقتصادي المعتمد منذ نشأة الدولة، وهما الفقر، وسوء توزيع الدخول، بما يزيد تدريجيًا من عدد الفقراء عامًا بعد عام، وفي غياب لآليات حقيقية تحتسب عدد الفقراء، وتضع بالتالي سياسات حكومية واضحة لمواجهة تلك الكارثة في أغنى بلد عربي.
الأزمة التي نعاني منها فعلًا هي أزمة فهم الأزمة، فالاعتراف الحكومي واضح بوجود أزمة توزيع دخول، وبعض المؤسسات العاملة في المملكة بدأت، منذ الشتاء الماضي، في حملات لتوزيع "كسوة شتاء"، على المناطق الفقيرة، التي تغيب بها الخدمات الحكومية، في مؤشر جديد، لكنه جيد، إذ أنه اعتراف بتفاقم مشكلة الفقر، ودخول القطاع الخاص على خط حلها.
الإحصائيات غير الرسمية لعدد الفقراء بالمملكة، تقدر عددهم بنحو 3 ملايين مواطن، ما يعادل 18% من التعداد السكاني، وهي احصائيات تقريبية، تشمل العاطلين عن العمل، والمستفيدين من الضمان الاجتماعي، وأصحاب الأجور المتدنية، على الرغم من العوائق الكثيرة التي تحول من دون التأكد بدقة، خصوصًا وأن لا وجود لإحصائيات دقيقة.
وتُشير الإحصائيات إلى أن نسبة الأثرياء لا تتجاوز 0.6 % من المجموع الكلي للسكان، و نسبة المدراء و المشرعون لا تتجاوز نسبتهم 6%، في حين تصل نسبة الطبقة العاملة إلى 44%، وهي أرقام توضح أن هناك اتساع للطبقة الفقيرة بمرور الزمن، لا يكفي لحلها مجرد مسكنات، تتمثل في المساعدات.
الحل اللازم لأزمة الفقر في المملكة يجب أن يخاصم "فلسفة إخراج الزكاة"، التي تصلح فقط على المستوى الشخصي، كالتزام ديني للفرد، أما الدول فأنها تضع سياسات ملزمة لمكافحة سوء توزيع الدخول أولًا، ثم تعتمد قوانين للحد الأدني والأقصى للأجور والمداخيل، بما يضمن الحقوق الإنسانية لمواطنيها، فالحق في الحياة الكريمة ليس منة أو تنازل من الحكومة تجاه المواطن.