فؤاد السجيباني- خاص راصد الخليج-
في واحد من تقارير مجلة "لايف" الأميركية، ذائعة الصيت، التي تتناول وضعية الشارع العربي واهتماماته في الستنيات، يقول إن التغيير يضرب الحياة اليومية في الشرق الأوسط، ويتوحد الناس على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم وعقائدهم مرة في كل شهر، ودائما في العاشرة مساء، المرور في القاهرة متوقف، والطاولة تختفي من مقاهي كازابلانكا، والتجار يفرغون مبكرًا من أشغالهم، والآذان كلها تهفو إلى القاهرة، للاستماع إلى صوت "أم كلثوم".
أما حين قررت "الست"، الغناء من ألحان محمد عبد الوهاب، فإن شوارع المدن العربية الكبرى تحوّلت إلى مدن أشباح، وترك الناس كل شيء ورائهم، متحلقين حول أجهزة الراديو، للاستماع إلى رائعة أم كلثوم وعبد الوهاب "أنت عمري"، للمرة الأولى، وهي ما اصطلح على تسميته بـ"لقاء السحاب".
مطربة الشرق الأولى وملحن العرب الأشهر، خلبا لبّ الجميع، بتعاون فني متأخر، يُجمع أغلب من عاصروه، من المهتمين بالشأن العام، وليس الموسيقى فقط، أن اللقاء لم يخيب الرجاء، فجاء مشهدًا توحديًا نادرًا، آلف بين القلوب العربية، وأوضح أن ما يجمع بين الشعوب أكثر مما تختصره لحظات خلاف سياسي، تسببها الأنظمة، وتنفخ فيها، لمصلحة زيادة الفرقة، بينما الشعوب عند القاعدة العريضة تلتقي وتنجذب تلقائيًا، لكل ما تعتبره ترجمة لتطلعاتها وطموحاتها.
في مونديال روسيا 2018، كأس العالم، شاهدنا إعادة لما جرى في الستينات، لكن بالعكس، توحد العرب على إظهار الفرح بهزيمة الفريق الوطني السعودي لكرة القدم، بنتيجة ثقيلة من الدب الروسي، 5 أهداف كانت تضيء المقاهي العربية بالضحكات، وتكشف عن النتيجة المأساوية لمسيرة سعودية، حاولت بكل كدّ أن تثبت وجودها على حساب الشعوب والأنظمة، فإذا بالكراهية تنكشف مع أول فرصة.
العلو السعودي، المرتبط برغبة النظام في توسيع دائرة تأثيره، مدعومًا بالفوائض البترولية، والعدد الضخم من العمالة العربية -10 ملايين- بالسوق السعودية، وبالتالي القدرة على هز أي دولة في ظروف صعبة، مثل مصر، بدأ يؤتي النتيجة العكسية، بعد عقود من التمكن، الذي أراده ملوك بني سعود على القمة الفاعلة في النظم العربية، فإذا بالكراهية تكون هي رد الشعوب الأوفى على مجمل سياسات السعودية.
سنوات التألق والتأثير خبت وتراجعت، وصارت الحرب العبثية والمجرمة في اليمن حرب تضرب إمكانية استمرار النظام السعودي، بل وصلت إلى أن تهدد البلد كلها، والمشاعر العربية توحدت في نقمة ظاهرة ضد ابن سلمان، الأمير المغامر، الذي اعتمد سياسة "غرور المال"، واستدعاء القوة في مواجهة بلد في حالة تراجع، فاكتشف بعد فوات الأوان أن للقوة حدودًا وأن للمال دائرة لا يؤثر خارجها.
في 2015، وقبل الصعود الصاروخي لمحمد بن سلمان، بلغت المملكة السعودية ذروة الدور الإقليمي، ساعدت الرئيس المصري الجديد –وقتذاك- عبد الفتاح السيسي، على عقد مؤتمر المانحين، لدعم وتنمية اقتصاد بلاده، وانتزعت في المقابل جزيرتي تيران وصنافير، في معاهدة مذلّة للمصريين، تلاها احتجاجات شعبية، سرعان ما أخمدها الجنرال بمنتهى العنف، استرضاء لحليفه الوحيد، في وقت كان يعاني النظام المصري من عزلة دولية.
وفي العام ذاته، بدأت السعودية تدخلها العسكري في اليمن، تحت لافتة "عاصفة الحزم"، بتحالف مكون من 10 دول إسلامية، قبلت لعب دور التابع لوزير الدفاع الشاب، في مقامرة، وبنوا حساباتهم على أن شعب اليمن المنهك لن يقاوم الطائرات أكثر من شهر على الأكثر، فإذا بالحرب تمتد، والصواريخ تصل إلى قلب المملكة.
لكن لكل طريق نهاية، ونهاية الدور الإقليمي الواسع للسعودية جاءت، بعد تراجع الدولة داخل حدودها، وتبني إصلاحات دينية واقتصادية، سببت القلق لمكونات المجتمع، وبات من المحتم أن يذوق النظام السعودي ما زرعته أمواله وفتاوى مشايخه في سوريا واليمن وليبيا ومصر، وأن يشرب من كأس المرّ الذي أذاقه لشعوب المنطقة، ولم يترك حليفًا لم تصلاه نار مخططات "بن سلمان".
الرفض العربي الواسع لسياسات محمد بن سلمان، ومحاولة فرض الحلول على الشعوب العربية، خرجت من ضيق الدبلوماسية وقيودها، إلى الشارع العربي، الذي نادرًا ما يتوحد تجاه دولة بكاملها، فتوحد فقط ضد السعودية، والأيام المقبلة حبلى بالمزيد من تبعات السياسة الكارثية، التي لم تترك حليفًا عربيا واحدًا لنا.