دانييل برومبيرج - المركز العربي واشنطن دي سي-
كانت الصحافة الغربية غارقة في صور النساء السعوديات اللاتي يجلسن خلف عجلة القيادة للمرة الأولى، وفي الواقع، لا يمكن لأحد أن يقلل مما حدث في المملكة العربية السعودية في 24 يونيو/حزيران 2018.
وفي الرياض، وهي مدينة حارة وشاسعة مع مؤسسة دينية متشددة يرى الكثير من علمائها قيادة النساء كأداة للفساد الشيطاني، شكلت قيادة النساء نوعا مبهجا من الحرية.
والسؤال الأكثر جوهرية هو: ما يعنيه هذا التغيير بالنسبة للنظام السياسي في المملكة؟
وقد برز هذا السؤال في الأسابيع التي سبقت رفع الحظر على قيادة النساء، عندما ألقت الحكومة القبض على 10 ناشطين، معظمهم من النساء اللاتي قدن حملة تطالب بذلك الحق تحديدا.
فهل كشفت هذه الحملة عن أن ولي العهد «محمد بن سلمان» ليس أكثر من ديكتاتور ماكر، كان هدفه الحقيقي هو تعزيز صورته أمام القادة الغربيين؟
ومما لا شك فيه أن جهوده الرامية إلى تحسين صورة المملكة لدى الجمهور الأمريكي، من خلال عرض صورة للاعتدال والمعقولية، تبدو بالتأكيد أنها تدعم هذا التفسير لأفعاله.
ومع ذلك، فإن هذه الرؤية الضيقة لقصة القيادة تفتقد النظر إلى التغيير السياسي الأوسع في المملكة.
ورغم أن خطوط هذا التحول تظل غير واضحة، فلا يزال بإمكاننا البدء في ربط بعض النقاط في محاولة للفهم.
وتشير التحولات إلى إعادة صياغة «صفقة الحكم» القديمة بين الحاكم والمحكوم، والتي تنص على أن الحاكم يوفر الخدمات والحماية الضرورية في مقابل تقديم المحكومين فروض الولاء.
ويعد هذا التحول قويا بما فيه الكفاية لخلق فرص وأخطار للأمير السعودي الطموح، ويطرح فكرة حول «النظام الجديد لإدارة البلاد» التي يبدو أن «بن سلمان» يسعى لإنشائه.
العقد الاجتماعي
ويشترك النظام السياسي في المملكة كثيرا مع نظم الممالك الأخرى التي تعتمد على «صفقة حكم».
وفي هذا النظام، يتم توفير المحسوبية والحماية لمجموعات محددة مقابل دعمها، أو على الأقل قبولها، للأنظمة التي تمارس السلطة في نهاية المطاف.
وتعتبر الفوائد، مثل السكن والإعانات والوظائف، حافزا مفيدا لجعل السكان يظهرون الولاء، لكن الحوافز أصبحت غير كافية.
وفي الواقع، تعتمد جميع الأنظمة أيضا على توليد الخوف للحفاظ على أتباعهم في خط واضح، وتعزيز عدم الثقة بينهم.
وهكذا، في معظم الأحيان، تجعل «صفقة الحكم» الحاكم وصيا محتما، وفي نفس الوقت مصدرا للرفاهية، لكن دون أخذ الحرية في الاختيار.
وقد أثبت العديد من الملوك العرب براعة خاصة في استخدام هذا النظام لتحقيق غاياتهم السياسية.
ومن بين الأدوات التي يستخدمونها تقسيم العمل، حيث يتم إغراء أعضاء الأسر المالكة والأمراء والرموز القوية والقوى المؤسسية بالكثير من المناصب والمنافع، للنأي بأنفسهم عن الصراع السياسي، مقابل قيامهم بتفويض مهام الحكم إلى القادة السياسيين.
وفي دول مثل المغرب والأردن والكويت، يتم انتخاب العديد من هؤلاء القادة، وبالتالي يمكنهم المطالبة ببعض الشرعية الديمقراطية.
وعلاوة على ذلك، يقوم الملوك بالتواصل مع هؤلاء القادة المنتخبين بشكل دوري في صورة «برامج الإصلاح» التي تعد بانفتاح سياسي أكبر، مع التأكيد على استمرار السلطة النهائية للملك وحلفائه.
وفي العديد من الحالات، وأبرز مثال على ذلك في المغرب، أثارت الثورات السياسية في العالم العربي عام 2011 المزيد من مبادرات التغيير السياسي الذي تفرضه الدولة.
لكن عندما يتم كشف محدودية فاعلية هذا التغيير، يلقي الملوك باللوم على السياسيين، ما يؤدي في بعض الأحيان إلى تمهيد الطريق لجولة جديدة من «الإصلاحات».
صفقة «بن سلمان» الجديدة
وعلى النقيض من المغرب أو الأردن أو الكويت، لم تشجع المملكة العربية السعودية هذه الطريقة للإصلاح السياسي الذي تديره الدولة.
وعلى العكس من ذلك، خشي القادة السعوديون من أن أي انفتاح، بغض النظر عن مدى سيطرتهم عليه، يمكن أن يشكل تهديدا خطيرا.
ويتم تفسير هذا التردد جزئيا من خلال حقيقة أن هناك مساحة مؤسسية وأيديولوجية أقل بكثير للعب لعبة الإصلاح في البلاد.
وكان القادة السعوديون تاريخيا مكبلين بتحالفهم مع مؤسسة رجال الدين التي كانت تعمل كمصدر نهائي للسلطة الدينية.
وبالتالي، نادرا ما حاولوا استدراج قطاعات أقل قوة مثل الليبراليين، والنساء المولعات بقيم الغرب، أو الأقلية الشيعية، وكلها أهداف للعداء من قبل رجال الدين.
وفي الواقع، لقد استخدم القادة السعوديون الأيدلوجية الوهابية، والشرطة الدينية لإحكام قبضتهم على خصومهم المحتملين، وفي ظل النظام الذي ورثه «بن سلمان»، تمحور تحدي الإصلاح حول قدرته على الخروج من هذا الإرث دون إثارة غضب النخب الدينية، ولا سيما العناصر الأكثر تشددا.
فلا عجب إذن في أن الأولوية الأولى للنظام الجديد كانت تبني التغيير الاقتصادي الدرامي، بدلا من إعادة صياغة النظام السياسي.
وبالتأكيد فإن التطلع إلى هذا التغيير، كما يتجلى في رؤية المملكة لعام 2030، هو أمر حقيقي، حتى لو كان غير واقعي.
وبعد كل شيء، لا يمكن للبلاد الاعتماد إلى ما لا نهاية على عائدات النفط لتمويل العقد الاجتماعي، لكن البرنامج الاقتصادي الطموح يفقتر إلى إمكانية النجاح في غياب محاولة مقابلة لإعادة هيكلة اللعبة السياسية.
وكانت الإطاحة بخصومه الأمراء الرئيسيين خطوة أولى ضرورية، لكن ذلك في حد ذاته لم يوفر لـ«بن سلمان» مسارا سياسيا واضحا، كما أن سجن كبار رجال الأعمال السعوديين في فندق «ريتز كارلتون» بالرياض، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017، لم يعالج هذا التحدي.
وقد أسفرت الجولة عن بعض المليارات من الدولارات، لكن هذا الاضطراب لم يخفف من العزلة السياسية المحتملة لـ«بن سلمان».
وبهدف وضع مسافة بين النظام والمؤسسة الدينية، يبدو أن النظام يزرع مجموعة من «الشيوخ الموالين» لدعم خطاب ديني أقل صرامة، ويتماشى هذا الهدف مع مطلب «بن سلمان» الملح من أجل الإسلام «المعتدل».
وفي ضوء ذلك تأتي اعتقالات نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017، لمن وصفهم النظام برجال الدين «المتشددين»، ولكن موجة الاعتقالات شملت أيضا العديد من المفكرين الإسلاميين البارزين الذين لم يكونوا جزءا من المؤسسة الدينية، ولكنهم كانوا قد طالبوا في السابق بإجراء إصلاحات ديمقراطية، الأمر الذي بعث برسالة واضحة من قبل «بن سلمان» أنه على استعداد لإسكاتهم، وبالتالي منع أي محاولة لإقامة أيديولوجية إسلامية خارجة عن سيطرة النظام.
وباختصار، أيا كان محتوى «الاعتدال»، فإن الملك وحلفاءه وحدهم يحددون طبيعة هذا الاعتدال.
ومن أجل ذلك يبدو أن ولي العهد يعمد إلى إجراء عملية استبدال كاملة لصفوف النخب والقوي التقليدية للمجتمع السعودي، وبدلا من ذلك يبدو أن استراتيجية «بن سلمان» تلتمس الدعم من المجموعات التي كانت تعتمد في السابق على النظام لحمايتها من المؤسسة الدينية، ولا سيما النساء والطائفة الشيعية.
ونتيجة لذلك، دشن ولي العهد «محمد بن سلمان» عدة تحولات تشير إلى عملية إعادة صياغة مهمة لصفقة الحكم القديمة.
أولا: تم إصدار مرسوم ملكي يسمح للنساء بقيادة السيارات، وهو التحول الأكثر إثارة في مبادرات ولي العهد.
كما ظهرت تغييرات أخرى أيضا، بما في ذلك إنشاء مدونات نسائية، ونوادي تشغيل ومراكز لياقة، وتنظيم مجموعات قراءة. ولم تتطلب العديد من هذه المبادرات تصريحا رسميا.
ومع ذلك، يكشف اعتقال الناشطات في مايو/أيار 2018 بوضوح عن نية النظام ضمان عدم قيام الناشطات المدافعات عن حقوق النساء باستغلال الوضع القائم للحديث تحت شعار الحرية أو الديمقراطية.
ثانيا: بالنسبة لأعضاء الطائفة الشيعية، فقد اتبع النظام العديد من المبادرات المصممة لتأمين دعمهم رعم الصعوبات المرتبطة بهذه الجهود.
وكان عداء المؤسسة الدينية المكثف والجماهيري للغاية تجاه الطائفة الشيعية ومعتنقيها، فرصة لـ«بن سلمان» لمتابعة هذا الجهد، وهو يسعى إلى دعم الشيعة لإعادة صياغة نظام المنافع الاجتماعية والسياسية، خاصة أنه لم يمر سوى عامين فقط منذ أن قام النظام السعودي بإعدام «نمر النمر»، القائد الأبرز للمعارضة الشيعية.
ومن الواضح أن ولي العهد لا يمكن أن يأمل في موازنة قوة رجال الدين السنة دون دعم «المعتدلين» من الشيعة.
ثالثا: ولإضفاء الشرعية على هذه الجهود، يريد «محمد بن سلمان» تعزيز نوع جديد من القومية السعودية، ويظهر هذا الأمر في جهود النظام لتعزيز «الحوارات الوطنية» مع قطاعات متعددة.
وفي العالم العربي، لا تكاد تكون هذه الحوارات جديدة، وفي أوقات مختلفة، قام القادة الاستبداديون في المغرب والبحرين ومصر والأردن والكويت بالترويج، أو حتى ترؤس، مناقشات كان هدفها المعلن هو تعزيز الإجماع السياسي الجديد.
ومع ذلك، فإن هذه المناقشات التي تديرها الدولة لم تشبه أبدا «الحوار الوطني» الموضوعي في تونس عام 2014، وبينما مهد هذا الحوار الطريق لانتقال تونس إلى الديمقراطية، مثلت الحوارات الشبيهة مجرد فرصة للسلطة توضيح القواسم المشتركة والاختلافات، بطرق لم تهدد، بل وغالبا ما تدعم، النظام السياسي السائد.
وتشير الأدلة المتوفرة إلى أن حوارات السعودية مصممة لتحقيق توازن مماثل، بين تعزيز الحوار بين الطوائف واحتواء التأثيرات الضارة التي قد تتدفق من مثل هذه المناقشات.
وكما يتضح من «مركز الملك عبدالعزيز» للحوار الوطني، فإن هذه التجمعات تشمل قادة شباب من مختلف المجتمعات.
وعلاوة على ذلك، فإن صفحات الويب المخصصة لبرنامج «نسيج» في المركز تبين أنها مصممة للوصول إلى المناطق الشرقية، وجمهور الشيعة.
ومع ذلك، فإن المشاركين في «نسيج» لم يذكروا صراحة الاختلافات بين السنة والشيعة، وبدلا من ذلك، يتحدثون بلغة التسامح والوحدة الوطنية والتفاهم، بينما يتجنبون باستمرار أي ذكر للديمقراطية.
رابعا: أجرى النظام انتخابات بلدية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015. وكانت هذه الانتخابات هي الثالثة من نوعها في المملكة والأولى التي تشارك فيها النساء.
ولكن رغم وجود 284 مجلسا من المجالس البلدية، وما يصل إلى 5 ملايين امرأة سعودية مؤهلة للتصويت، لم تحقق الانتخابات نجاحا كبيرا مع معارضة رجال الدين المتشددين لمشاركة الناخبات والمرشحات.
وفي النهاية، لم تسجل سوى 130 ألف امرأة في الجداول الانتخابية، ولم تفز سوى 20 من بين 900 مرشحة بمقاعد.
ومع ذلك، فإن مشاركة المرأة في انتخابات المجالس المحلية، وإن كانت بسلطات محدودة للغاية، تتناسب بشكل جيد مع الاستراتيجية الناشئة لأمير يسعى لكسب مناصرين في دوائر جديدة.
امتيازات وليست حقوقا
وفيما يتعلق بجهود «بن سلمان» لإعادة صياغة صفقة الحكم القديمة، هناك حقيقة أساسية محورية؛ وهي أن الملك وولي العهد هما المصدران الوحيدان للسلطة.
وهما فقط من يمنحون الحق في القيادة أو مواصلة الحوار أو إجراء الانتخابات.
وبالتالي، فإنهم لا يمنحون حقا بقدر ما يمنحون امتيازات (بموجب مرسوم ملكي) إلى المجموعات التي تحتاج إلى الرعاية الملكية، وفي الواقع، يستطيع القادة السعوديون سحب هذه «الامتيازات» إذا ما استنتجوا أن «حلفاءهم» الجدد يزدادون قوة.
وتجدر الإشارة إلى أنه في المملكة المتحدة والدنمارك، من بين دول أخرى، كان الملوك أيضا في يوم من الأيام هم الموزع الوحيد لهذه الامتيازات.
ومع ذلك، تحولت الامتيازات في نهاية المطاف عبر القرون إلى حقوق تضمنها الدساتير وتحميها البرلمانات والمحاكم. وباختصار، تطورت أنظمة المسؤوليات والامتيازات الاجتماعية الملكية إلى ممالك دستورية.
ولم يحدث مثل هذا التحول بشكل كامل في الأردن والمغرب والكويت، ومن غير المرجح أن يحدث ذلك في السعودية.
ولا تكمن المشكلة فقط في أن نظام «بن سلمان» وأولئك الذين يتبعون خطواته يرون أن التخلي عن السيطرة الفعلية أو السلطة الفعلية لصالح القادة المنتخبين والمحاكم المستقلة هو انتحار سياسي.
فهناك تحدٍ موازٍ، وهو أن المجموعات التي يعتمد ولي العهد اليوم لا تتمتع بفرص كبيرة في نظام سياسي تنافسي.
ولدى الليبراليين في السعودية، والمجموعات النسائية، وليس أقل منهم الأقلية الشيعية، أسباب تدعو للقلق، فقد تفرز الانتخابات الوطنية الشاملة تمكينا لمنافسيهم الأقوياء.
وبالنسبة لهذه المجموعات، فإن إعادة ترتيب تفاصيل نظام الحكم لخلق «حكم استبدادي متحرر»، قد يبدو في النهاية بديلا أفضل من نظام استبدادي تماما أو ديمقراطية تنافسية كاملة.
وتكمن المشكلة بالنسبة لـ«بن سلمان» في أنه إذا كان جادا بالفعل بشأن إنشاء حكم استبدادي متحرر، فعليه أن يضمن أن الإصلاحات السياسية التي تدعمها عليها الدولة حقيقية وموضوعية، وفي نفس الوقت عليها ألا توقظ مطالب التحرر التي لا يستطيع السيطرة عليها.
وربما الأسوأ من ذلك، يجب على «بن سلمان» أن يحذر من إثارة رد فعل رجال الدين المتشددين، الذين يخشون من أن حتى عددا قليلا من الإصلاحات قد تمثل منحدرا زلقا لنزعة ثقافية أو دينية أو ربما سياسية غريبة.
وتعد كيفية تحويل هذه المعضلة المزدوجة إلى فرصة هي أكبر تحدٍ سياسي داخلي لولي العهد.